لم تمر مخططات اليهود وسياساتهم العدوانية والإجرامية طويلة الأمد لاحتلال فلسطين والمسجد الأقصى دون مقاومةٍ وجهادٍ من أهل فلسطين، الذين بذلوا في سبيل ذلك الغالي والنفيس وأرواحهم ودمائهم، ولا يزالون يواصلون مسيرة الجهاد والمقاومة منذ 130 عاماً.
إن الشعب الفلسطيني يعرف عظم الأمانة التي يجب أن يحافظ عليها سواء أرضه المباركة وحقه في البقاء فيها والتمتع بخيراتها في وجه الغزاة المحتلين، أو أمانة الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث المساجد المعظمة في الإسلام، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، في وجه الحقد اليهودي الرامي لهدم المسجد وإقامة الهيكل المزعوم.
وللأسف فإن كثيرا من أجيالنا الفلسطينية والعربية والإسلامية أصبحت اليوم تجهل هذه الجهود العظيمة التي بذلها الشرفاء والأبطال طيلة هذه العقود، بسبب سياسات التعليم والإعلام التي تتجاهل هذا الجهاد العظيم بل وتشوهه في بعض الأحيان! فضلاً عن الركون لمسار التفاوض السياسي العبثي مع اليهود طيلة العقود الثلاثة الأخيرة.
وهذه إشارات سريعة لمجمل جهاد الشعب الفلسطيني تجاه العدوان اليهودي عليه والذي ساندته القوى الرأسمالية بالمال والسلاح والدعم المعنوي، والقوى الشيوعية الماركسية التي دعمته بالرجال والسلاح والدعم المعنوي والاعتراف الرسمي فضلاً عن الخيانات العسكرية في مقاومته.
* ظهرت المقاومة المسلحة العفوية للعدوان اليهودي منذ عام 1886م حين هاجم الفلسطينيون المطرودون من قراهم في الخضيرة وملبس قرب يافا مستوطنة (بتاح تكفا) التي أقيمت على أراضيهم، وقد دعا هذا السلطات العثمانية للتشدد في منع هجرة وتملك اليهود للأرض في فلسطين.
وقد احتج أهل فلسطين على تساهل ومحاباة الوالي العثماني رشيد باشا في تطبيق قوانين منع تملك اليهود لأرض فلسطين واشتكوه لرئيس الحكومة العثمانية، وكان هذا بداية تبلور المقاومة السياسية ضد الغزو اليهودي على مدار عمر هذا الصراع، والذي تعامل عبر تاريخه مع السلطات العثمانية ثم الانتداب البريطاني ثم عصبة الأمم ثم الدول العربية ثم الأمم المتحدة ثم التفاوض المباشر مع اليهود ليصل للحائط المسدود مع تنصل اليهود من كل استحقاقات اتفاقية أوسلو.
* بدأت تظهر وتنكشف الأطماع اليهودية والصهيونية بفلسطين مع عقد مؤتمر بال الصهيوني عام 1897م، وكان لمقالات العلامة رشيد رضا في مجلة المنار فضل السبق في تحذير المسلمين من الخطر الصهيوني الزاحف إلى فلسطين والقدس، والتي كان يطالعها نخبة فلسطين، وبدأ هنا دور المقاومة الثقافية ضد الغزو اليهودي، بتوعية أهل فلسطين البسطاء بالمخططات العالمية واليهودية الصهيونية الرامية لاحتلال فلسطين وتهجير شعبها، من خلال تأسيس عدد من الصحف الفلسطينية مثل: الكرمل والأصمعي والمنادي وفلسطين.
* في مرحلة الانتداب البريطاني حين زادت الهجرة اليهودية وظهرت خيانة بريطانيا للعرب بإطلاق وعد بلفور، تصاعدت المعارضة الفلسطينية السياسية للسياسات البريطانية العدوانية، وبدأ التأسيس لعمل عسكري مقاوم، فظهرت سنة 1919م جمعية "الفدائية" في غالب المدن والمناطق الفلسطينية، وكان لها الكثير من العمليات العسكرية، وكان كوادرها هم من أدار انتفاضة موسم النبي موسى عام 1920م، وبقيت نشطة حتى عام 1923م، وكان يوجهها علماء فلسطين من أمثال الشيخ سعيد الخطيب والحاج أمين الحسيني والشيخ محمد يوسف العلمي. وشهدت هذه الفترة تدمير عدد من المستوطنات اليهودية وهرب اليهود في الجليل الأعلى.
وقد تصاعدت المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد ذلك في مسيرة طويلة مرت بتنظيم الشيخ عز الدين القسام، ثم المقاومة الفلسطينية بقيادة عدد من الأبطال منهم عبد القادر الحسيني، ثم ظهور حركة فتح وما تلاها من فصائل عسكرية، ثم جاءت حركة الجهاد وأخيراً حركة حماس وكتائب القسام، وحالياً نشهد مرحلة الخلايا المنفردة، كاستجابة فلسطينية خلاقة دوماً للتحديات والظروف الصعبة!
وشهدت سنة 1921م مظاهرة في يافا احتجاجاً على تصريحات تشرشل المؤيدة للاستيطان اليهودي في زيارته لفلسطين، وشهدت بعد شهرين انتفاضة بسبب اعتداءات الشيوعيين اليهود وتطاولهم على المقدسات الإسلامية، ثم قامت الكتيبة اليهودية في الجيش البريطاني بفتح النار في أسواق يافا، وتصاعدت الانتفاضة لخارج يافا فهاجم آلاف الفلسطينيين بعض المستعمرات وكادت تسقط لولا تدخل الجيش البريطاني ونصرته لليهود.
وفي عام 1929م قامت ثورة البراق رداً على محاولة اليهود السيطرة على حائط البراق، فتصدى لها المقدسيون وأهل فلسطين، مما استدعى تكوين لجنة دولية أقرت حق المسلمين بحائط البراق وما حوله باعتباره وقفا إسلاميا.
لقد قاوم الشعب الفلسطيني وجاهد بكل وسيلة أتيحت له، حيث عقد العديد من المؤتمرات لتوعية الشعب الفلسطيني والعربي بالخطر اليهودي الزاحف، وطلب الدعم والمعونة من علماء الأمة وقادتها، وتعددت المظاهرات والانتفاضات الرافضة للسياسات البريطانية بتمكين اليهود من فلسطين، وتم تأسيس بعض المؤسسات الاقتصادية لمقاومة التمدد اليهودي فيها.
وفي سنة 1936م أُعلن عن الاضراب العام لعدم استجابة بريطانيا للمطالب الفلسطينية، ثم تفجرت الثورة بقيادة الشيخ عز الدين القسام والتي زلزلت بريطانيا، لكن تدخل الزعماء العرب لفك الإضراب والتعويل على المفاوضة مع بريطانيا، فرّج عن بريطانيا ولم يكسب الفلسطينيون منه شيء، ولعل هذا المشهد قريب جداً مما يجري اليوم من مفاوضات في قضايا سوريا واليمن وليبيا، حيث يساوم على تضحيات هذه الشعوب في فيينا وجنيف وغيرهما بما يحفظ مصالح القوى الدولية والإقليمية لا تحقيق رغبة هذه الشعوب بالحرية والكرامة!
* ومع انسحاب بريطانيا من فلسطين كان هناك حوالى 60 ألف فلسطيني مقاوم سواء كان عسكرياً تابعاً للهيئة العربية العليا أو متطوعاً، لكن للأسف كان غالبهم غير مدرب ولا مؤهل فضلاً عن عدم توفر السلاح والذخائر لغالب هؤلاء المقاومين، والذي نتج عنه ضياع عدة مدن لصالح اليهود منها القدس الغربية، وقيام دولة اليهود عام 1948م.
ومع هزيمة الجيوش العربية والفلسطينيين أمام اليهود المدربين والمدججين بالرجال والسلاح من روسيا وبريطانيا، لم يستسلم أهل فلسطين من خلال مقاومة غير منظمة بل واصلوا القيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال اليهودي، ويعترف اليهود بوقوع 7850 عملية عسكرية من جهة الأردن، و3000 عملية من جهة غزة ومصر، و600 عملية عسكرية من جهة لبنان، وذلك بين سنتي 1949-1956م.
* ثم بعد عام 1965م بدأ تكون الفصائل الفلسطينية الفدائية بدايةً بحركة فتح، ثم توالت بقية الفصائل، وقد قادت هذه الفصائل المقاومة المسلحة في داخل فلسطين بداية، وعقب هزيمة 1967م واصلت العمليات العسكرية من خارج الحدود الفلسطينية، وقد مرت هذه الفصائل بكثير من المحطات والانتكاسات التي أضرت بالمصالح الفلسطينية، حتى انصهرت أخيراً في المسار السياسي التفاوضي ونبذت المقاومة العسكرية.
مع ذلك صمد الشعب الفلسطيني على أرضه وأفشل كثيرا من المخططات لتذويبه في دولة اليهود كمخطط روابط القرى، وغيرها في الضفة الغربية.
* أما الفلسطينيون في مناطق الـ 48، فقد ظهرت بينهم سنة 1971م الحركة الإسلامية، التي تطورت مع الأيام وأصبح لها دور بارز في مقاومة الاحتلال اليهودي لفلسطين والمسجد الأقصى، حيث عملت على حماية هوية الفلسطينيين من الذوبان في الهوية الإسرائيلية، وحثت البدو على رفض الخدمة العسكرية اليهودية، وقامت بجهود كبيرة في حماية الأقصى من خلال مهرجانات (الأقصى في خطر)، وتسيير رحلات لزيارة الأقصى باسم مسيرة البيارق، لحماية الأقصى من انتهاكات المستوطنين اليهود، والمشاركة في رعاية وترميم الأقصى مع المؤسسات الرسمية الخاصة بذلك، ومن أجل هذا الدور المحوري في مقاومة الاحتلال اليهودي تعرضت الحركة الإسلامية للحلّ من قبل حكومة اليهود في 17/11/2015.
* ثم جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987م، والتي كشفت عن حيوية الشعب الفلسطيني ورفضه للاحتلال اليهودي وعدوانه الظالم، وظهرت حركة حماس للوجود وضخت دماء جديدة في مقاومة وجهاد الشعب الفلسطيني، وتنامت حركة حماس وكوّنت ذراعها العسكري (كتائب القسام) التي قادت الجهاد ضد اليهود في الضفة وغزة.
ثم جاءت الانتفاضة الثانية رداً على تدنيس المجرم شارون للمسجد الأقصى، وتصدى لها جميع الفلسطينيين ولذلك اغتال اليهود عددا من قادة الفلسطينيين من مختلف الفصائل والتيارات على رأسهم ياسر عرفات وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأبو علي مصطفى، وتصاعدت المقاومة والجهاد ضد الاحتلال اليهودي مما استدعى انسحاب اليهود سنة 2005م من غزة بسبب المقاومة العسكرية فيه.
* وبقي الفلسطينيون يقاومون العدوان اليهودي المتواصل سواء بتوسعة الاستيطان في الضفة والقدس من خلال لجان المقاومة الشعبية وحراس القرى ودعوات المقاطعة والمظاهرات وغيرها من الأساليب التي استخدمت في الضفة، أو من خلال التصدي العسكري للعدوان الإسرائيلي الهمجي في عدة حروب تعرضت لها غزة في سنوات 2008، 2012، 2014، وقد سطر فيها المجاهدون أروع البطولات وصمدوا برغم ضعف الإمكانيات صموداً أسطورياً، وبدأ هناك تحول في منهج المقاومة من الدفاع إلى الهجوم والمبادرة بضرب العدو.
* وفي هذه الأيام نشهد تواصل بطولات الشباب الفلسطيني الأعزل في مقاومة توسع همجية العدوان اليهودي على الفلسطينيين بمصادرة أرضهم وقتل الأبرياء كحادثة عائلة الدوابشة والاستهانة بمسجدهم الأقصى المبارك.
الخلاصة؛ برغم كل المخططات اليهودية الخبيثة والطويلة الأمد، إلا أن الشعب الفلسطيني لم يقف متفرجاً ومستسلماً، بل هبّ يجاهد ويقاوم بكل سبيل ووسيلة، ولم يفتر عن ذلك طيلة 130 عاماً، برغم كل الخيانات وكل المكائد التي هدفت لترويض هذا الشعب المجاهد والمقاوم، لكنها فشلت لأن فلسطين أرض مباركة ومبارك ما حولها وفيها، وقد أثبت التاريخ أنهم قد يضعفون لكنهم لا ينهزمون وينتهون، وبقاء احتلال وظلم اليهود لن يطول ولن تطيب لهم فيها الحياة حتى ذلك الحين.
هكذا جاهد أهل فلسطين دفاعاً عنها وعن الأقصى
2015/12/01
الرابط المختصر
Image