نشهد هذه الأيام تجدد الحملة اليهودية على اقتحام الأقصى واحتلاله من قبل جماعات دينية، في تطبيق عملي للمخططات المعلنة منذ سنوات، والتي منها وثيقة يهودية نشرت بعنوان "المخطط اليهودي لإقامة الهيكل وتهويد القدس" في 50 صفحة ملونة تحتوي على الصور الافتراضية لمستقبل القدس والمخططات الإدارية والهندسية لهذا المشروع، وكان فضل الكشف عنها لمؤسسة الأقصى، التي يديرها الشيخ رائد صلاح ونشرت من قبل مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية في سنة 2008.
ولولا الثقة بالله عز وجل وبوعده للمؤمنين بعودة الأقصى، لقطعنا الرجاء من عودته لما نراه من تفريط الحكام والشعوب بحق الأقصى، ولولا هذا التفريط لما استغل اليهود هذه الفترة الحرجة لتنفيذ مخططاتهم بتقسيم الأقصى تمهيدا لابتلاعه كما بلعوا فلسطين والقدس ومن قبلها.
ولذلك عودة الأقصى هي قضية محسومة لالنسبة للمسلمين، لكن التساؤل هو هل سيكون لنا شرف المشاركة في هذه العودة، هل سنشهد هذا في حياتنا أم سيكون ذلك من نصيب أبنائنا وأحفادنا ؟
والذي يدعوا لهذا التساؤل ما نراه من طاقات وأموال وأوقات عظيمة وكبيرة تصرف من ملايين الشباب العربي والمسلم في برامج المواهب التافهة، فهل بمثل هذه المواهب سنستعيد الأقصى ؟ وهل بمثل هؤلاء الشباب قامت إسرائيل ؟ ألم تقم إسرائيل على أكتاف شباب لقبوا ("بالصبار" وبالعبرية "تسباريت" وذلك على اعتبار أنهم كثمرة الصبار لذيذي الطعم من الداخل ولكنهم شائكون وخشنون من الخارج، بهدف ودافع: "حماية أنفسنا من أعدائنا، أعدائنا العرب"). فهل شبابنا اليوم يصلح للمنافسة الخشنة بهذه المواهب المائعة ؟
ومن هنا فإن الظن بأن عودة الأقصى سهلة ميسورة ضرب من الوهم والخيال، والإعتقاد بأن مجموعة من الأمة يمكنها بمفردها تحقيق هذه الغاية الكبرى وهم كبير، ولنا في تجربة أسر الأقصى زمن الصليبين عظة وعبرة، يقول الأستاذ وليد نويهض، في كتابه (صلاح الدين الأيوبي سقوط القدس وتحريرها، قراءة معاصرة) : "لم تأت إذن انتصارات صلاح الدين من فراغ، ولم تكن النتائج العسكرية التي حققها من دون مقدمات سياسية وتنظيمية وإدارية وإصلاحية وإحيائية امتدت على أكثر من قرن إلى أن بدأ قطف ثمارها في عهدي عماد الدين زنكي ونور الدين محمود زنكي الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للتحولات الكبرى التي شهدتها بلاد الشام ثم مصر".
ويقول: "فالتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة في نهاية القرن السادس الهجري سبقتها حركات إصلاحية تمثلت في مسألتين : إحياء علوم الدين واسترداد الدولة (الخلافة العباسية" مواقعها، ونتج عن المسألتين والجهود التأسيسية التي قام بها الجيل الإصلاحي الأول من العلماء والفقهاء إطلاق حركة سياسية ـ دينية، رغم حالات الإرباك والإحباط التي واجهته لحظة بدء حملات الفرنجة الأولى، فبين مرحلة التأسيس (460هـ) وإلغاء الدولة الفاطمية في مصر وإعادة توحيد مصر والشام (567هـ) أكثر من قرن شهدت خلاله المنطقة حالات من الصعود والهبوط والهجوم المضاد، إلى أن أخذت تستقر الأمور في مطلع القرن الهجري السادس.
فالجيل الأول أسس لظهور الجيل الثاني (ولد نور الدين محمود 511هـ) ومهد الجيل الثاني طريق تحرير القدس للجيل الثالث (ولد صلاح الدين 532هـ) واحتاجت الحركة الإصلاحية. الإحيائية مئة سنة لتثمر النتائج السياسية التي أدت إليها، وتصد هجمات الإفرنج وتبدأ بهزيمتهم".
وهذا الجهد الإصلاحي قام على عماد نشر العلم في المجتمع وتولية أصحاب الكفاءة في المناصب، وذلك بفضل سياسة الوزير السلجوقي نظام الملك، حيث أنشأ المدارس وجعل للطلبة مرتبات وعرفت هذه المدارس بالمدارس النظامية عام 459هـ. ودرس بها كبار العلماء في ذلك العصر وألفوا كثيراً من الكتب التي عالجت أمراض المسلمين في زمانهم مثل (أدب الدنيا والدين) للإمام الماوردي، وله كتاب (الأحكام السلطانية)، وألّف الجويني (غياث الأمم في التياث الظلم) وكان لهذه الكتب المدارس دور كبير في إخراج المسلمين من الجهل والبعد عن الدين والفرقة والوقوع في شبهات الفرق الضالة الباطنية، ولذلك قامت الفرق الباطنية (الحشاشين) باغتياله عام 485هـ.
وأصبح طلبة المدارس النظامية هم قادة المقاومة للصليبين على الصعيد الداخلى بتقوية الأمة ونشر العلم وإصلاح الدولة وضبط مسارها والعمل على تقويتها، وعلى الصعيد الخارجي بقيادة الجيوش والبعوث.
ولذلك من الخطأ الاعتقاد أن مآثر صلاح الدين انحصرت في الجانب العسكري فحسب، أو أن سياسته قامت فقط على الحرب، أو أن بناء جيش قوي كفيل لوحده بإرجاع الأقصى اليوم، إن مثل هذه النظرة الطائشة تعد جزء من المشكلة التي تطيل في عمر ضياع الأقصي اليوم، بل لقد شمل جهد صلاح الدين ومن قبله من القادة كنور الدين زنكي وعماد الدين زنكي ما يلي:
أ ـ مواصلة مسيرة الوزير المخلص نظام الملك في بناء المدارس ورعاية العلماء وطلبة العلم ونشر حلقات التدريس؛ لبناء جيل جديد يتحمل أعباء الجهاد ومشاقه، ومحاربة الأفكار الضالة والبدع والخرافات في حياة المسلمين (الإصلاح التربوي والتعليمي).
ب ـ بناء المساجد والحصون والأسوار وعمارة الأوقاف ورعاية الأيتام والفقراء (العدالة الإجتماعية).
ج ـ دعم القضاء وزيادة سلطانة وعدم التعدي عليه من قبل الأمراء والقادة (الإصلاح القضائي).
د ـ الاهتمام بالناحية الاقتصادية فأزالوا الضرائب والتزموا الشرع فيها، فأخرج التجار أموالهم، وازدهرت الحياة، واهتموا بإعمار المدن، وصرفوا عليها الملايين، وتركوا حياة الترف، وأقاموا الفنادق وخزانات الماء والجسور (الإصلاح الإقتصادي).
هـ ـ اهتم بالصناعات الحربية ودعمها، ومن ذلك إنشاء ديوان للأسطول البحري ودور لصناعة السفن في ثلاث مدن هي: القاهرة، الإسكندرية، دمياط (الإصلاح العسكري).
و ـ توحيد الأمة والقضاء الطائفية البغيضة والحركات الباطنية لما كان لها من أثر سيئ بتفيت طاقات الأمة والتعاون مع الأعداء.
ز ـ الاهتمام بإخراج القيادات ذات الكفاءة والإخلاص، ومنها للفائدة: القائد الأمير بهاء الدين قاراقوش الذي كان عالماً فقيهاً؛ فقد كان والي صلاح الدين على عكا وكانت له مآثر عظيمة؛ منها أنه بنى سور القاهرة وقلعة الجبل فيها، وكان له جهد مشكورة في القضاء على الدولة الفاطمية، ولذلك كان الشيعة وراء الإشاعات والأكاذيب عليه وألّفوا فيه كتاب الفاشوش في أحكام قاراقوس.
ح ـ وكان من أهم الجهود في استعادة بيت المقدس هو إعداد أبناء النازحين من بيت المقدس للجهاد؛ فكانت توفر لهم الإقامة والتعليم، ثم يعودون إلى الثغور والمرابطة، وكانوا يعرفون باسم المقادسة.
وعليه فإن العمل لنصرة الأقصى عمل ضخم يجب أن تتضافر فيه كل الجهود الشعبية والحكومية، ويجب على العقلاء من الطرفين تنمية وحث أي بادرة إيجابية تصب في هذه الغاية الشريفة، فنحن بحاجة الفرد والأسرة والموظف والعامل والمسؤول الصادق في إنتمائه لنصرة الأقصي.
والموفق من كان جزءاً من هذا الجهد الضخم والكبير بأي مستوى كان، بنشر الوعي والدعوة أو العمل والتضحية، والمساهمة في نهضة الأمة وإصلاحها، فالأقصي فقدناه لضعفنا دينياً ودنيوياً ولن نسترده ما لم نكن أقوياء في الدين والدنيا، و(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله).
هكذا عاد الأقصي وهكذا يعود
2014/06/01
الرابط المختصر
Image