هل من العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (2)

الرابط المختصر
Image
هل من العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (2)

وصلنا إلى أن الإسلام لم يعرف مشكلة تعارض النقل / الوحي مع العقل، بل إن العقل في الإسلام والوحي موضع تكريم وتقدير بما يناسبه، بخلاف ما وقع في الأمم السابقة التي تَصادم فيها النقل / الوحي مع العقل بسبب تحريف النقل والوحي، فحصل تصادمٌ مع العقل السليم فيما حرف من النقل، كما أن اعتماد البعض على عقولهم فيما لا تحسن وتطيق جعلها تعارض ما بقي من الوحي والنقل فيما بين يديها.
ومع توسع انتشار الإسلام وتعدد الشعوب والأقوام الداخلة فيه أو المنضوية تحت جناحه زادت مساحة الاحتكاك والجدال والنقاش مع عقائد جديدة ومتنوعة ومختلفة، بعضها كان بِحسن نية، وكثير منها كان بغرض الإفساد والتخريب، وقد تنوعت مواقف المسلمين من هذه الأفكار والعقائد السابقة والمخالفة، وهو ما سنوضحه بعد قليل.
لكن يجدر بنا هنا التنبيه إلى أن احتكاك الإسلام والمسلمين بالعقائد والديانات الأخرى كان موجوداً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فبدايةً نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في قريش، بين قوم مشركين وفيهم بعض الحنفاء، وفي فتوّته سافر إلى الشام وعرف أن هناك من يدين بالنصرانية، وكان أخواله من المدينة التي تحوي بعض اليهود.
وبعد البعثة حصلت له نقاشات مع بعض اليهود والنصارى، منها حواره مع عبد الله بن سلام، الذي سأله عن ثلاثة أشياء لا يعلمها إلا نبي، فلما أجابه عنها أسلم، ومنها حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد نصارى نجران حول عيسى عليه الصلاة والسلام، ونزل بسببها قوله تعالى: "إن مثلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون" (آل عمران: 59)، ويكثر في القرآن الكريم استخدام قياس الأولى في المحاججة العقلية.
والخليفة الثاني الفاروق، رضي الله عنه، حين فتح بيت المقدس حاوره كبير نصارى القدس حول القضاء والقدر فأفحمه الفاروق.
فلما دخل في الإسلام أقوام شتى، ومن عقائد مختلفة، ووصلت للمسلمين أفكار فلسفة اليونان بمختلف مدارسها، ومنها منطق أرسطو، وجرت محاورات وجدالات عقائدية كثيرة نتج عن كل ذلك تأثر بعض المسلمين ببعض أفكار الآخرين، ومن هنا بدأت تتشكل ظاهرة المتكلمين، والتي ستتطور لاحقاً لتصبح فرقا فكرية مختلفة ومتصارعة برغم زعمها اعتماد العقل كمرجعية لحسم الخلاف!
وهنا برز موقفان متباينان هما: موقف أئمة الإسلام من التابعين وأتباعهم وتلاميذهم، الذين رفضوا الأفكار الوافدة الباطلة والمعارضة للدين وعقيدة التوحيد، وبقوا على هذا الموقف طيلة التاريخ ولليوم، والذين يُعرفون بلقب "أهل السنة" طيلة التاريخ، وموقف غالب المتكلمين والفرق والكلامية الذين تعددت وجهات نظرهم ففي البداية اعتمدوا على عقولهم وما تلقفوه من الاخرين مع رفضهم للفلسفة ومنطق أرسطو في البداية ولعدة قرون، ثم جاء من المتكلمين من قبل منطق أرسطو دون الفلسفة، وفريق ثالث رضي بالمنطق والفلسفة جميعا! وعن موقف المتكلمين المتناقض يقول د. سامي النشار في كتابه "مناهج البحث عند مفكري الإسلام": "فكرة شائعة لدى مؤرخي الفكر الإسلامي -وخاصة المستشرقين- وهي أن المتكلمين الأوائل كانوا رجال دين استخدموا منطق أرسطو في جدلهم اللاهوتي، ومع أن هذه الفكرة فاسدة تمام الفساد".
وهنا ظهرت الفرية التاريخية أن أهل السنة وأتباع السلف يرفضون العقل! وأن هناك تعارضا بين النقل/ الوحي والعقل!
وحقيقة هذه الفرية كما يقول د. محمد السيد الجلنيد في كتابه "منهج السلف بين العقل والتقليد": "إن بداية المشكلة المثارة ضد المنهج السلفي تبدأ من هذه النقطة: نقطة التشنيع عليهم بأنهم يرفضون العقل كمصدر للمعرفة، ما داموا يرفضون الأخذ بمفهوم الفلاسفة للعقل! وكأن المفهوم الفلسفي للعقل هو وحده الصواب، وما عداه يكون خطأً ومرفوضاً؟!".
وتفكيك هذه الفرية وإثبات بطلانها سهل واضح رغم ما غطاها من طبقات كثيرة من الأكاذيب والدعايات المضللة وساعدها بدون قصد جهود بعض المخلصين غير المؤهلين لتفنيد هذه الفرية فشاعت وذاعت وأصبحت مسلّمة عند كثير من الناس دون وجه حق. 
رفض علماء الإسلام والسنة كالإمام الشافعي هذه الأفكار الوافدة لأنها باطلة في نفسها أولاً، ولأنها تخالف العقل ثانياً، ولأنها تعارض صريح الإسلام ثالثاً، ورفْض الفلسفة والمنطق لم يختص به أهل السنة، بل هو موقف غالب الاتجاهات الإسلامية رابعاً، ولأنها تدمر المجتمعات وتعطلها خامساً، وبيان ذلك في النقاط التالية:
1- هي دعوى باطلة، فحين وصلت هذه العلوم الفلسفية الوافدة من اليونان وغيرهم إلى المسلمين زعموا أنها ضرورية لكل العلوم، وأنه لا يمكن تحصيل العلوم بدونها! ومعلوم أن الفلسفة اليونانية تنقسم لطبيعيات ورياضيات وإلهيات (ميتافيزيقا)، وغالب كلامنا هو على نقد ونقض الإلهيات (الميتافيزيقا) لكونها تمس الدين، أما الطبيعيات والرياضيات فقد قبِل منها المسلمون ما ثبت صوابه وردّوا الخطأ فيها وصوّبوه.
وعرض علماء أهل السنة هذه المزاعم على ميزان العلم والعقل فوجدوا أن منطق أرسطو لم يُعرف إلا قبل الميلاد بثلاثة قرون، بينما هناك حضارات كبيرة وضخمة كانت قبل وجود اليونانيين وفلسفتهم وأرسطو ومنطقه! كحضارات وعلوم أهل الصين والهند ومصر، والتي فاقت علوم اليونان بمراحل كثيرة، بل حتى أبو الطب "أبقراط" وصل لكثير من علم الطب دون حاجة ومعرفة بمنطق وفلسفة أرسطو! وبذلك ثبت عند علماء السنة بطلان هذه المزاعم، وأن هذه أشياء لا تتوقف عليها المعرفة ولا يتقيد بها العلم، وهو الموقف العلمي اليوم من فلسفة أرسطو الصورية التي تهتم بعالم الخيال وتهمل عالم الواقع والفعل.
وبذلك نسأل: مَن الأكثر عقلانية أتباع الفلسفة والمنطق أم أئمة الإسلام وأتباع السلف؟
ولم يكتفِ علماء أهل السنة بذلك، بل قالوا لهؤلاء المجادلين عن الباطل: ألا ترون لعلم النحو والعروض والفقه والأصول والحديث قد قامت وازدهرت عند المسلمين ونحن لم نعرف فلسفة ومنطق اليونان وأرسطو؟!
بل ينقل الإمام السيوطي عن الإمام الشافعي أنه جعل منطق أرسطو هو سبب للجهل والتفرق والنزاع بدلاً من العلم والاجتماع، فقال: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس"، وفعلاً فإن من نظر في جدالات المتكلمين والمتفلسفين سيجد بحراً من الجهل ومحيطاً من الخلاف.   
2- أما مخالفة الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو للعقل فهذا أصل فلسفتهم عبر تصورهم وتعريفهم للعقل بأنه جوهرٌ قائمٌ بنفسه، أي أن العقل شيء مادي!! وهذه مغالطة كبرى ليس لها سند من عقل أصلاً، فكيف بنوا عليها فلسفتهم بحيث لما بطلت هذه المغالطة بطلت كل فلسفتهم كما هو حال الفلسفة الصورية البائس اليوم، بينما العقل في الوحي وعند علماء المسلمين هو صفة ومعنى وليس مادة، وهو غريزة فطرية في الإنسان، وهذا ما توصلت له الفلسفة الغربية الحديثة كما عند ديكارت ولالاند.
ولقد أدرك هذا المسلمون منذ القديم، فهذا أبو العباس الناشئ المعتزلى (توفي 293هـ) نقض الفلسفة والمنطق وعجز أنصارهما عن الجواب عليه، حتى استشهد بكلامه أبو سعيد السيرافي (توفي 368هـ) على أحد أرباب نقلة الفلسفة والمنطق للمسلمين وهو متّى بن يونس النصراني (توفي 328هـ) فقال له: "حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم الخلاف بين اثنين، أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدتَ أن الله ثالث ثلاثة!!". 
ومن مجازفات الفلسفة والمنطق اعتبار جواهر الأشياء متساوية لا اختلاف فيها، فجوهر الثلج يماثل جوهر النار! وأن الخلاف بينهما في الأعراض أي الصفات، وهذا جنون فاضح.
وبهذا يتضح أن أئمة الإسلام وأتباع السلف أكثر عقلانية من اتباع الفلسفة والمنطق!
ومن أراد التوسع في معرفة مخالفة رائد المنطق أرسطو للعقل والعلم وأن منطقه أورثه مئات الأخطاء في الطبيعيات والرياضيات فضلاً عن ضلال كل إلهياته فليرجع إلى كتاب الدكتور خالد كبير علال (جنايات أرسطو في حق العقل والعلم). وللحديث تتمة.