هل من العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (3)

الرابط المختصر
Image
هل من العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (3)

توصلنا فيما سبق إلى أن الإسلام يعتمد الدليل السمعي (الوحي) والدليل العقلي السليم وليست لديه مشكلة مع العقل، وأن معارضة علماء الإسلام وأئمة السلف ليس للعقل بل للفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي، وخاصة في باب الإلهيات لأسباب موضوعية علمية عقلية ودينية، ولكن دعاة الفلسفة والمنطق ضللوا الناس وزعموا أن الإسلام يخالف العقل وأن السلف يحاربون العقل!
وشرحنا أول سببين لرفض علماء الإسلام والسنة لهذه الأفكار الوافدة وهما: أنها باطلة في نفسها أولاً، ولأنها تخالف العقل ثانياً، ونتابع اليوم شرح بقية الأسباب وهي: أنها تعارض صريح الإسلام ثالثاً، ورفْض الفلسفة والمنطق لم يختص به أهل السنة بل هو موقف غالب الاتجاهات الإسلامية رابعاً، ولأنها تدمر المجتمعات وتعطلها خامساً.
3- أما معارضتها الصريحة للإسلام وأصوله الكبار، فأكتفي ببيان الباطل العظيم الذي ترتب على مخالفة الفلسفة والمنطق للعقل السليم بتعريفهم للعقل على أنه جوهر مادي، حيث ألزمهم هذا القول بنظرية العقول العشرة التي خَلقت الكون! وهذا كفر صريح بالله عز وجل الخالق للكون، ونقض لأصل الإسلام، وشبيه بنظرية العقول العشرة في الكفر نظرية الفيض الذاتي التي نادى بها أفلاطون من قبل، ووجه الخطورة أن بعض الفلاسفة المحسوبين على الإسلام كالفارابي وابن سينا قبلوا هذه النظريات الكفرية وأخذوا يروجونها بين المسلمين!
ومن أوجه مناقضة الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي في قسم الميتافيزيقيا لأصول الإسلام أنها تقوم على أن حقيقة الوجود فيها وجود ذهني لا حقيقة له، فمثلا هي تقوم على فرضية خيالية وهي وجود جوهر مادي بدون أعراض/صفات، كوجود إنسان لكنه ليس شخصا محددا له اسم أو لون أو طول أو عرض!! وقريب من هذا رؤية فيثاغورس أن الأعداد والأرقام لها وجود مادي! وهذا جنون عارضه الإسلام من قديم وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية قصب السبق في إبطاله، ووافقه العلم الحديث والفلسفة المعاصرة!
وبتطبيق هذا الخيال غير العقلاني على نظريات الفلسفة في واجب الوجوب (ويقصدون به الله عز وجل) فيصبح وجوده خياليا لا حقيقياً، وهذا باب الإلحاد والكفر والعياذ بالله، وهذا ما وقع فيه الجهمية المعطلة والنفاة لجميع صفات الله عز وجل.
وأيضاً فإن الفلسفة اليونانية والمنطق الصوري الأرسطي يقوم على فكرة الكليات ويعارض الجزئيات، ولذلك نتج عن هذا أن من تفلسف من المسلمين أصبح ينكر علم الله عز وجل بالتفاصيل والجزئيات كابن سينا! بينما القرآن الكريم ينصّ على العلم المطلق لله عز وجل "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط مِن ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مُبين" (الأنعام: 59).
وتعلق د. عفاف الغمري في كتابها (المنطق عند ابن تيمية) وتقول: "تتضح لنا عبقرية ابن تيمية أنه يربط بين نظرية اليونان في العلم الكلي.. ونظرية متفلسفة الإسلاميين -متابعين لأرسطو- .. وبهذا أدرك ابن تيمية الصلة بين المنطق الأرسطي والميتافيزقية الأرسطية".
ولهذه الآثار الخطيرة على الدين حرّم العلماء تعلم الفلسفة اليونانية وقالوا: "من تمنطق تزندق" لِما حصل في واقع المسلمين من قبول هذه المغالطات العقلية أولاً ثم التزام لوازمها الكفرية، وقد بيّن الإمام ابن الصلاح الشافعي (توفي 643هـ) ذلك في فتواه المشهورة بقوله: "أما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر".
وبعد هذا: ألم يكن علماؤنا أكثر عقلانية من دعاة الفلسفة؟
4- لم يقتصر رفض الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي على علماء السنة وأتباع السلف، بل كان هذا موقفا موحدا شاركهم فيه المتكلمون والصوفية لعدة قرون، لكن كثير من المتأخرين من المتكلمين والصوفية خالفوا موقف المتقدمين وانخرطوا في الفلسفة بعد أن ابتلعهم المنطق الأرسطي بضلالاته.
وقد جمع د. عبد الله السهلي أصناف الرافضين للفلسفة والمنطق في كتابه (المنطق اليوناني تاريخه العقدي وتعريفه ومنهجه العلمي)، فسرد من أهل السنة: الشافعي وابن قتيبة وابن الصلاح والذهبي وابن تيمية والسيوطي، ومن قدماء الصوفية: الجنيد والتستري والسلمي والهروي، ومن المعتزلة: أبو العباس الناشئ، والقاضي عبد الجبار، وأبو علي الجبائي وأبو هاشم الجبائي، ومن قدماء الكلابية والأشعرية: الأشعري والباقلاني وابن فورك، ومن قدماء الماتريدية: أبو منصور الماتريدي وأبي اليسر البزدوي وأبو معين النسفي.
وبهذا يتبين أن دعوى معارضة أهل السنة للعقل أو أنهم يرفضون العقل هي فرية صلعاء، بل هم رفضوا عقل اليونان الوهمي ومنطق أرسطو الباطل، مثلهم مثل غيرهم، لكن ميزة أهل السنة وأتباع السلف أنهم ثبتوا على موقفهم العقلاني والديني –لليوم- بخلاف بقية المذاهب والفرق التي مالت بعد قرون بسيطة لاتباع فلسفة اليونان ومنطق أرسطو، حيث أخذت الفرق الكلامية المنطق عن ابن سينا (توفي 428هـ) وكان الجويني (توفي 478هـ) هو من سهّل دخول المنطق دون الفلسفة بين الناس، وقام الغزالي (توفي 505هـ) بمزج المنطق بعلم أصول الفقه واستدخاله للأشعرية، وبذلك بقي أهل السنة وأتباع السلف وحدهم في وجه ضلالات وخبالات منطق اليونان وفلسفتهم.
5- رفض أهل السنة فلسفة اليونان ومنطق أرسطو لأنهم عاينوا تأثيرها الضار والمدمر على المجتمعات، فهي تنشر بينهم الجهل من خلال التركيز على خيالات ذهنية بدلاً من التركيز على التجربة والحس في الطبيعيات والرياضيات، ولذلك لم تقدم فلسفة اليونان لأوربا حضارة علمية لليوم! وفلاسفة الإسلام الذين تبعوا اليونان كانت إبداعاتهم العلمية في الطبيعيات والرياضيات بسبب تجاوزهم لمنطق أرسطو واعتماد التجربة والحس، ولذلك لم يقدم المتكلمون والفرق كالأشاعرة للعلم شيئا يذكر مع التزامهم الفلسفة والمنطق من زمن الغزالي!! ولعل في شهادة د. زكي نجيب محمود بالأثر السلبي لهذه الفلسفة على المسلمين عظة لمن يعقل بقوله: "سيادة المنهج الأرسطي نكبة ثقافية كبرى أصيبت بها الأمة الإسلامية".
وأوربا لم تتقدم إلا بعد أن تعلمت واحتكت بحضارة المسلمين في الأندلس القائمة على العلم والتجربة والحواس في أمور الطبيعيات والرياضيات، فقد كانت أوربا ترسل طلبتها الأذكياء للدراسة في جامعات قرطبة وأشبيلية ومن ثم عادوا لبلادهم وقادوها للعلم والنهضة حيث تسلّم عدد من طلبة جامعات الأندلس منصب البابوية وبعضهم أصبح ملكا وحاكماً.
ومن مضار هذه الفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي الأعوج على المجتمعات ترسيخ كثرة الجدالات والمنازعات الفارغة حتى لقبت بجدالات بيزنطية! وهذا يتبدى بفحص تشتت وتناقض فلاسفة اليونان أنفسهم وتناقض وتنازع أتباعهم من فلاسفة المسلمين وتخالف وتشرذم الفرق الكلامية برغم اعتمادهم على نفس المنطق الأرسطي الذي يزعمون أنه "أداة تعصم الذهن من الخلل والزلل"، وهل بعد كل هذا التناقض والاختلاف في الأصول والأسس خلل وزلل!
لكل هذه الأسباب رفض علماء الإسلام وأتباع السلف هذا العقل اليوناني الأعرج والمنطق الأرسطي الأعور وكانوا بذلك سباقين لانتهاج العقلانية الرشيدة وتجنيب البشرية فترة تيه طويلة كما حدث مع اليونانيين والأوربيين الهمج الذين لم تستقر أمورهم وتستقيم أحوالهم إلا مع أنوار الإسلام والعلم الإسلامي على العالم والبشرية.