تبيّن معنا فيما سبق أن علماء الإسلام والسنة من السلف الصالح كان لهم موقف مبكّر رافض لما يسمى معقولات اليونان ومنطق أرسطو وما ينتج عنها من آراء في الإسلام تخالف ما قرره الله عز وجل في القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن أمثلة ذلك الرفض لهذه الآراء المستحدثة والوافدة على الإسلام ما ورد عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: "أوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء"، وبسبب رفض الآراء المستحدثة والوافدة، والتي كانت طليعة دعوات فرض المنطق والفلسفة على المسلمين قام الإمام الشافعي بتصنيف كتابه العظيم "الرسالة"، ويكفي في وصف أهمية كتاب الرسالة قول الرازي: "كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلَّمون في مسائل أصول الفقه، ويَستدلون ويَعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كُلي يرجعون إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفيَّة معارضتها وترجيحاتها، فاستَنْبَط لهم الشافعي عِلمَ أصول الفقه، ووضَع للخَلق قانونًا كليًّا، يُرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، فثبَت أنَّ نسبة الشافعي إلى عِلم الشرع، كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل"، والشافي في كتابه الرسالة أسس للرد على ترهات المتكلمين لاحقاً فأثبت حجية السنة عموماً وحجية حديث الآحاد خصوصاً، ورفض التأويل الباطل لنصوص الوحي، وأكد أن الوحي الرباني المتمثل في القرآن والكريم والسنة النبوية هو الأصل والمقدم على ما سواه وأن العقل تابع لهما.
وبقي موقف علماء الإسلام والسنة رافضاً لترّهات الفلسفة والمنطق لأنها تعارض العقل والدين كما سبق أن بيّنا، وقد فصّل ذلك د. خالد كبير علال في كتابه "مقاومة أهل السنة للفلسفة اليونانية"، لكنه كان موقفاً مجملاً في رفضه، ومع تكامل تسلسل فلسفة اليونان ومنطق أرسطو لحياة المسلمين ظهر في القرن السابع الهجري شيخ الإسلام ابن تيمية فتمكن من هضم موقف علماء الإسلام والسنة والسلف في رفض المنطق الأرسطي والفلسفة اليونانية، وتمكّن من هضم الفلسفة والمنطق بما يفوق أهلها، ومن ثم قام بنقض الفلسفة في قسمها الميتافيزيقي (الإلهيات) والمنطق من داخلها وبشكل مفصل اعتمادا على دلائل الوحي الرباني وعلى معرفته بتضارب المذاهب الفلسفية اليونانية نفسها حتى وصل إلى مرحلة هدم المنطق الأرسطي تماماً.
ولم يكتفِ شيخ الإسلام ابن تيمية بهدم منطق اليونان وفلسفتهم بل قام ببناء تصور منطقي بديل يرتكز للدلائل العقلية في الوحي الرباني ويقوم على اعتماد الاستقراء والحس والتجربة في العلم والمعرفة ويقبل الحد اللفظي المفيد بدلا من الحد المنطقي اليوناني المعقد وعديم الفائدة!
ويلخص د. محمد رشاد سالم تميز جهد ابن تيمية مع المنطق اليوناني عمّن سبقه من العلماء بقوله: "أما ابن تيمية فهو يكشف بطريقة منهجية فساد هذا المنطق، وقد ألّف عدة كتب في الرد على المنطق ... وكتاب (الرد على المنطقيين) وهو من الكتب الكبيرة، إذ يقع في أكثر من خمسمائة صفحة، وهو من أعظم الكتب في التراث الإسلامي، بل وفي التراث الإنساني".
وقد شهد مؤرخو تاريخ الفلسفة المنصفون من كل ملة لجهود شيخ الإسلام ابن تيمية في هدم منطق اليونان وبناء بديل منطقي عقلاني سليم ونافع، وبيّنوا أن ابن تيمية وصل لهذا المنطق في القرن السابع الهجري قبل منظري أوربا من أمثال بيكون وديكارت وجون لوك وبروكلي وغيرهم، وكما تقول د. عفاف الغمري: "يمكن القول بأن ابن تيمية قد سبق مفكري الغرب بما لا يقل عن ستمائة سنة إلى نقد المنطق التقليدي". وقد بيّن د. عايض الدوسري في كتابه "هكذا تحدث ابن تيمية" عددا من الشهادات لسبق وتميز جهود ابن تيمية، منها قول المفكر الشيعي مصطفى الطبطبائي: "إن القراء الكرام إذا رجعوا إلى فصل نقد ابن تيمية لمنطق أرسطو في هذا الكتاب -المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق- سيلاحظون في نقد ابن تيمية عن المنطق جميع آراء (سيتوارت مل) التي ذكرها قبله بخمسة قرون"، وقول د. علي الوردي: "أكاد أعتقد أن ابن تيمية وضع في محاولته هذه أساسا للمنهج الاستقرائي الواقعي الذي نجده واضحاً لدى ابن خلدون"، وعلى آراء ابن تيمية البديلة عن المنطق الصوري اليوناني قامت النهضة الأوربية الحديثة.
وللأسف أن هذا الجهد الكبير لم يجد قديماً وحديثاً ما يستحقه من تقدير ورعاية ومواصلة لتقديم حلول للبشرية الحائرة في عالم اليوم، يقول الشيخ مصطفى عبد الرزاق: " ولو أن الدراسات المنطقية سارت منذ عهد ابن تيمية على منهاجه في النقد، بدل الشرح والتفريع والتعمق، لبلغنا بهذه الدراسات من التجديد والرقي مبلغاً عظيماً، وعسى أن يتدارك شباب هذا الجيل ما فات أجيالاً ماضية"، ولا يقتصر تنقص جهد ابن تيمية في باب بناء منطق جديد وسليم على خصومه بل حتى محبوه وأنصاره لم يواصلوا طريقه كما يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "أما ابن تيمية فكان بين معجب لم يعن ببحث مناحي العظمة الفكرية للإمام ابن تيمية، بل عني ببحث الجانب الاعتقادي ونشره والذياد عنه"، ويقول د. محمد رشاد سالم: "إنني أعتقد أن نهضة المسلمين وانبعاثهم من رقدتهم وغفوتهم إنما تتوقف إلى حد كبير على مدى أخذهم بهذا التيار السلفي السني، أخذاً قائماً على الفهم والدراسة والعلم والعمل بالعلم، لا أخذاً قائماً على التعصب الفارغ والحماسة العاطفية"، فهل سنجد في شباب هذا الوقت مَن يواصل مسيرة شيخ الإسلام لبناء منطق فكري جديد يرشد البشرية الضالة في زمن العولمة وما بعد الحداثة؟
وأما عن مجمل رؤية ابن تيمية للعقل ولابطال منهج أنصار عقل اليونان فنتركه للمرة القادمة.
هل مِن العقلانية اتخاذ العقل مرجعية مطلقة؟ (5)
2019/03/01
الرابط المختصر
Image