روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء"، ومن أهم وأصح صفات الغرباء في كلام النبي عليه الصلاة والسلام أنهم " أناس صالحون في أناسِ سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" رواه أحمد.
وقد يغفل كثير من الناس عن أن غربة الدين ليست محصورة زمانيا بالبداية والنهاية فقط، بل هي أشبه ما تكون بدورات تاريخية متكررة دوما، ومما يساعد على توضيح ذلك ربط مفهوم غربة الدين بمفهوم تجديد الدين والذي قال فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود وصححه الألباني.
فهناك موجات أو دورات تاريخية دائمة من تجديد الدين وذلك بعد غربته، وهذه الغربة قد تكون واسعة الانتشار جغرافيا أو ضيقة، أو قد تكون محصورة بجوانب قليلة من غربة الدين في أحيان وتكون بجوانب كثيرة في مرات أخرى.
ولغربة الدين والإسلام ثلاثة مستويات:
الأول: غربة الإسلام والمسلمين بالنسبة للأديان الأخرى ولغير المسلمين، ومحاربة العلمانيين عالميا ومحليا للإسلام والمسلمين اليوم، كما هو في فرنسا مثلا، أو مطالبة بعض العلمانيين من بني جلدتنا بإبعاد الدين عن السياسة والقانون والحياة.
والمستوى الثاني هو غربة أهل السنة والجماعة بين المسلمين، خاصة مع استطالة أهل البدع اليوم على أهل السنة بدعم المؤتمرات الغربية والشرقية، وبتمدد المشروع الشيعي الطائفي العدواني، وباستثمار فتنة الغلو والتكفير الخارجية المتمثلة بداعش والقاعدة وأخواتها.
والمستوى الثالث هو غربة المصلحين العاملين في داخل أهل السنة حيث هم الصف الأول و(حرس الحدود) بتعبير الشيخ أبي إسحاق الحويني، فهم من يقارع أباطيل العلمانيين والحداثيين والمبتدعة والطائفيين والتكفيريين، وهم من يتصدى لشبهات الإلحاد وسيل الشهوات ومحاولة إنقاذ الجيل ورعايته وبيان حقيقة التوحيد ومعالم السنة، ثم تأتيهم الطعنات في ظهورهم من غلاة التبديع المداخلة!
غربة الدين تتمثل في قلة وضعف الصالحين والمصلحين وغلبة الجهل وقوة الباطل، وهي قضية نسبية قوة وضعفا، ونسبية في امتدادها الزمني والمكاني كما أسلفت.
ولذلك فإننا لو دققنا النظر في واقعنا اليوم فسنجد أننا على أعتاب مرحلة جديدة من غربة الدين والإسلام، وتتمثل في:
١-غياب العلماء والأئمة الكبار الذين كانوا محل إجماع وقبول لدى الأمة كالأئمة ابن باز والألباني وابن عثيمين رحمهم الله تعالى.
٢- كثرة وفاة العلماء والدعاة وطلبة العلم بسبب جائحة الكورونا من مختلف دول العالم ومن كل التخصصات العلمية الشرعية.
٣- غياب غالب المحاضرات الدعوية وانتهاء مرحلة الشريط الإسلامي والمطويات الدعوية والفضائيات الدعوية والتي كان لها بالغ الأثر في نشر الدين والتوحيد والسنة والموعظة وإحياء روح التدين عند مختلف قطاعات المسلمين.
٤- إغلاق وضعف الكثير من المراكز والجمعيات الإسلامية الدعوية والإغاثية والتي قامت بدور إيجابي وكبير في رعاية الشباب والفتيات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وبنت المساجد والمدارس ودور الأيتام والمراكز الطبية والإنتاجية.
٥- اضمحلال نشاط طباعة الكتب وتوزيعها الخيري على طلبة العلم والمراكز العلمية والثقافية والتي ساهمت في نشر العلم الشرعي في ربوع الدنيا وأنتجت ألوف الدعاة والخطباء والأئمة وطلبة العلم والعلماء.
٦- توقف نشاط بعض كبرى مواقع الإنترنت المجانية المتخصصة بنسخ الكتب المصورة لأسباب مالية تمويلية أو بِعلّة الملكية الفكرية، وسيكون مآل ذلك بعدة سنوات اختفاء وفقدان الكثير من الكتب المطبوعة وما فيها من علم بسبب قلة عدد النسخ المطبوعة أصلا وإغلاق كثير من دور النشر أبوابها بسبب الإفلاس.
٧- ضعف هواية وعادة المطالعة والقراءة بسبب الإدمان على أجهزة الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن قبل تكاد تندثر عادة استماع المحاضرات والسلاسل العلمية التي تربى عليها جيل كامل من شباب الصحوة الإسلامية.
٨- تزايد منابر نشر الشر من الشبهات والشهوات والمدعومة بميزانيات ضخمة.
٩- تكالب الأعداء من كل حدب وصوب على محاربة الإسلام والمسلمين بحجج شتى من الإرهاب والغلو والرجعية والتخلف والتشدد والتنطع وترك المذهبية.
١٠- الأجندات السياسية الدولية التي تسابق الزمن حتى لا تواصل الأمة المسلمة طريق السعي نحو استئناف حياة إسلامية صحيحة.
١١- الدعوة لالتزام الديمقراطية في المجتمعات المسلمة، شريطة أن تفرز الديمقراطية العلمانية أو إسلاما مهجنا ترضى عنه العلمانية!
١٢- تجريم الإسلام السياسي والجماعات الإسلامية في عودةٍ لزمن الحكم الشيوعي والشمولي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
هذه المؤشرات والسياسات تشي بأننا على أبواب مرحلة جديدة من غربة الدين والسنة يَضعف فيها العلم الشرعي ويقل فيها انتشار التدين وتسود فيها مفاهيم محرفة للدين ومبدلة، ويرافق ذلك ضعف الإسلام والمسلمين خاصة مع زيادة صراعاتهم وشقاقاتهم السياسية على مستوى الدول فيما بينها أو في داخل الدولة الواحدة أو على مستوى الجماعات والتيارات والأحزاب.
كيف نتعامل مع هذه الغربة الآتية سيكون موضوع حديثنا المقبل بعون الله تعالى.