هل ندرك حقيقة الإسلام

الرابط المختصر
Image
هل ندرك حقيقة الإسلام

يظن بعض الناس أن الإسلام مقصور على أداء بعض الشعائر، والإيمان بأمور غيبية، والتمسك بالأخلاق الحسنة، ولا شأن له فيما عدا ذلك، وهذا الفهم المغلوط للإسلام نشأ من سبب داخلي هو التدين المغلوط عند بعض الجهلة من المتصوفة الذين قصروا الإسلام على الجانب الروحي فقط، وبسبب خارجي هو دجل الرؤية العلمانية للإسلام والتي صورت الإسلام على أنه مماثل للدين النصراني الذي لا يتعدى الشأن الشخصي للمتدين به. وبسبب هذا الفهم المغلوط أصبح البعض من المسلمين ومع الأسف يستغرب أن يُطالب المسلمون بالتزام أحكام الإسلام في حياتهم!! ويعدّون هذه المطالبة تطرفاً وتشدداً لا يليق بسماحة الإسلام!!  وهذا يدل على مدى اتساع مساحة الجهل بالإسلام عند هؤلاء، فالقرآن منذ العهد المكي وهو يصرح بشمولية الإسلام وعموميته لكل شؤون الحياة وقبل قيام دولته في المدينة المنورة، ولكن للأسف لم تعد هذه الثقافة القرآنية هي التي تسود عند هؤلاء الذين استبدلوها بأهواء البشر من الغرب والشرق. لقد تناول القرآن المكي قضايا المعرفة الكبرى التي طالما حاولت البشرية الوصول إليها حين تبتعد عن أنوار الوحي، وهي: * ما هو أصل هذا الوجود؟ وكيف وُجد؟ * ما هو أصل الإنسان؟ وما هي طبيعة العلاقة في المجتمع الإنساني بين أفراده؟ ما هي حقوقهم؟ واجباتهم؟ من يحدد ذلك؟ وبأي حق يحكمهم؟ ... * ما هو الموقف من تنوع أديانهم وعقائدهم؟ * الثروة والمال من يملكها وكيف توزع بينهم؟ هذه القضايا الرئيسة الأربع (الإنسان، والدين، والسلطة، والمال) هي التي طالما شغلت العقول وبسببها حصلت الحروب، وهي التي أفرزت لنا اليوم الرأسمالية والشيوعية، والليبرالية وغيرها من النظريات والفلسفات والمذاهب التي في ظلها شهد العالم حروبه العالمية والتي قتلت عشرات الملايين، وفي ظلها شهد العالم أكبر جرائم الإبادة للمخالفين. القرآن الذي جاء ليكون كتاب هداية ورحمة للبشرية كما وصفه الله عز وجل "كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم" (إبراهيم،1)، وقال تعالى "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" (النحل،89)، وقال سبحانه "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء،107)، لا يتصور أن لا يكون فيه نظام حياة، يحقق للإنسانية ما تتطلع إليه من عدل وحرية ومساواة، ويهديها إلى الحق في هذه المشكلات التي تعاني منها البشرية أشد العناء! ولذلك عالج القرآن هذه القضايا منذ العهد المكي في العديد من آياته وسوره. فقد أعلنت الآيات المكية أن الخالق لهذا الوجود والإنسان هو الله عز وجل  وهو المستحق للعبادة والطاعة كقوله تعالى "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه" (الأنعام، 102)، بل أُمر النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن أن يقول للمشركين "أغيرَ الله أبغي ربّا وهو رب كل شيء" (الأنعام، 164). وأوضحت الآيات المكية أن الخلق يستوجب الملك والحكم والألوهية "قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس" (الناس،1-3). ولذلك كان توحيد الله عز وجل هو الأساس الذي يقوم عليه الإسلام وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، والتي تتضمن الإقرار لله عز وجل بالخلق والكمال والعبادة والمُلك والحُكم والأمر والسيادة والطاعة التامة لقوله تعالى "فاعلم أنه لا إله إلا الله" (محمد، 19)، وتوحيد الله هو أول ما يدعو إليه المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ـ وكان فيها يهود ونصارى ـ (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى ـ فإذا عرفوا ذلك ـ وفي رواية فإن هم أطاعوا لذلك ـ فأخبرْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فخذ منهم، واتق كرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، متفق عليه. وفي هذا الحديث بيان ارتباط الحق المالي (الزكاة) بتوحيد الله عز وجل، وأن الله عز وجل هو صاحب الأمر في الحقوق المالية وليس ذلك للأحبار والرهبان أو الملوك والأمراء، وفيه أن التوحيد جاء ليحرر البشرية من العبودية لغير الله في الشعائر التعبدية ويحررها أيضاً من العبودية المالية للمستكبرين والطغاة الذين كانوا يرغمون الضعفاء على مدهم بالمال، فجاء الإسلام ليعكس الوضع بإجبار الأغنياء على الدفع للفقراء والمحتاجين، ولا يفوتنا أن ننبه إلى مشابهة الجاهلية القديمة للجاهلية المعاصرة التي تجبر الضعفاء على رفد الأغنياء بالمال كما يحدث حاليا في الغرب من قيام الحكومات بدعم البنوك الجبارة بالمليارات من جيوب دافعي الضرائب الفقراء!! أو كما شاهد الجميع كنوز الجبابرة كالقذافي وبن علي المخبأة عن مستحقيها من الشعوب المسكينة والفقيرة. وتوحيد الله عز وجل يقتضي توحيده سبحانه في المُلك "تبارك الذي بيده الملك" (تبارك،1)، وتوحيده في الحُكم "أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا" (الأنعام، 114)، فالسلطة والسيادة الحقيقية هي لله عز وجل وليست لبشر كائناً من كان، وهذا هو ما يحرر البشرية من خرافات تفوق جنس على آخر أو أحقية عائلة بالحكم عن الآخرين أو تفوق أهل جهة على ما عداها من الجهات، وقد قص علينا القرآن أخبار فرعون والنمرود اللذين ادعيا حق السيادة من دون الله فخسف الله بهما الأرض، وحذرنا أيضاً من رجال الدين من الأحبار والرهبان، وعلماء السوء وسدنة السلطان والصولجان، الذين يوجبون على الخلق طاعتهم، واتباعهم، ويصدرون صكوك الحرمان في حق من خالفهم، لما لهم من سلطان روحي معنوي، كما قال تعالى في شأنهم "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" ( آل عمران، 64)، والعجيب أن هذين الفريقين لطالما تحالفا عبر التاريخ فجلبا الدمار والويل. ومن يتأمل آيات القرآن يجد أن صراع الأنبياء مع الجبابرة كان لأنهم يأمرون بالقسط والعدل في الأرض "إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب إليم" (آل عمران 21). كما بيّن القرآن المكي أيضاً حقيقة البشرية، وأنهم مكرمون ومن أصل واحد ولا فرق بينهم بالجنس أو اللون أو اللغة مما يهدم أفكار الجاهلية القديمة والحديثة، وأنهم خُلقوا لعمارة الأرض والاستخلاف فيها، وأنهم مأمورون بالصلاح والإصلاح وأن أمرهم يصلح بالشورى وأنهم سيحاسبون على أعمالهم يوم القيامة. هذه الأصول الكبرى جاءت في العهد المكي لتؤسس واقع شمولية الإسلام ودولته في العهد المدني، ببيان تفاصيل العبادات والشرائع والمعاملات المالية والإجتماعية والسياسية وبيان معالى الأخلاق وقصص الماضين وأخبار الغيب. ومن يحاول فصل هذه العبادات والشعائر عن أصل التوحيد لله عز وجل بالطاعة المطلقة التامة بالعبادة والمُلك والحكم، يكون جاهلاً أو متجاهلاً لحقيقة الإسلام، الذي جاء لهداية البشرية وسعادتها، وهو ما تحقق حين كان هو الموجه للمسلمين، وهو ما سيكون مرة أخرى إذا تمسكنا بهديه.