هل نعاني من علمانية إسلامية مُقنعة ؟

الرابط المختصر
Image
هل نعاني من علمانية إسلامية مُقنعة ؟

في الأسبوع الماضي اخذني أحد الأصدقاء لشرب الشاي في مقهى قرب مسجد محمد الفاتح، ونحن نسير في الشارع الذي تصطف على جنباته المقاهي، أخبرني أن هذه المقاهي روادها الإسلاميون بحكم أن منطقة الفاتح تعتبر معقل الإسلاميين في إسطنبول، فهنا ظهرت معظم الشخصيات الإسلامية الحركية وهنا كان مقر أغلب المؤسسات الإسلامية ولا تزال، ففي مساجد الفاتح نشأ الكثير من القيادات الإسلامية السياسية، فالرئيس التركي السابق تورغوت أوزال ورئيس الوزراء نجم الدين أربكان كانا من تلاميذ الشيخ محمد زاهد كوتوكو في مسجد إسكندر باشا القريب من جامع الفاتح.
في الطريق صادفنا شاباً تركياً ملتحياً يصرخ بعبارات غاضبة لم أفهم منها إلا كلمة الخلافة، فترجم لي صاحبي أن هذا الشاب غاضب من عدم تحكيم الشريعة وأن هذا شيء طبيعي في منطقة الفاتح من قبل حكم حزب العدالة والتنمية.
وصلنا المقهى ودخلنا ففوجئت بسحب الدخان تملء المكان من شباب كثر يتوزعون في أرجائه، والشيشة أو الأرجيلة تدور بينهم، أعدت الاستفسار من صاحبي ألست تقول هذا المقهى رواده الشباب الإسلامي؟ فكيف يدخنون بهذه الشراهة؟
قال صاحبي التدخين عندنا ليست قضية مهمة، ونادراً ما يتكلم فيها العلماء والخطباء، وهم يرونها مكروه غالباً، وهذا الوضع الدخاني عادى وطبيعي، فهنا في رمضان ومع الشيشة والأرجيلة يجتمع الشباب لترتيب أمور قيام الليل في رمضان في مسجد الفاتح الذي لا يبعد عنا إلا مئة متر!
فرحت أتأمل حال هؤلاء الشباب المتدين وكيف أنهم يعيشون تناقضاً في سلوكهم وحياتهم، فهم يحملون هوية إسلامية يعتزون بها ويفتخرون، ولكنهم في هذا السلوك يتناقضون مع الإسلام، وبعيداً عن الجدل الفقهي حول التدخين من ناحية الحلال والحرام، فإن من أصول الإسلام المقررة "لا ضر ولا ضرار"، وضرر التدخين والأرجيلة ثابت ثبوت الشمس في كبد السماء، فكيف يجمع هؤلاء الشباب وغيرهم من الإسلاميين والمسلمين بين حبهم لله عز وجل ولنبيه صلى الله عليه وسلم، وبين مخالفة أمرهما بما يضرهم في صحتهم ومالهم!
هل هذا نوع خفي من العلمانية يمارسه الإسلاميين دون شعور؟! حيث يفصلون دينهم وإسلامهم عن الحياة فلا وجود للدين خارج شعائر العبادات؟؟ وكأن الإسلام تحول لطقوس مجردة بما يصادم قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" (الأنعام: 17).
في الصباح التالي وكالعادة في الندوات والمحاضرات يندر أن يلتزم المشاركون بالوقت، ويتم عادة معاقبة المجتهدين والمبكرين والملتزمين بتأخير البدء بالبرنامج لحين استكمال الحضور، فعلق منسق الندوة غاضباً: الملتزمون لا يلتزمون بالمواعيد!
وفتح الباب للتعليق والحوار بين الحضور، فكانت الملاحظة المهمة في هذا الحوار، أن هناك نوع انفصال في الوعي الديني عند الكثيرين بل وعند القيادات والرموز المشهورة، وأنه تكاد توجد حالة من العلمانية المقنعة بينهم، حيث أنهم لا يسحبون منافع الشريعة الإسلامية وآدابها وثمارها ونتائجها على حياتهم، ويبقون في دائرة الطقوس الشكلية للشعائر الإسلامية.
ومن الأمثلة التي طرحت، واقع فقه الطهارة والذي نصت السنة النبوية على أهميته الكبيرة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الطهور شطر الإيمان" رواه مسلم، وفقه الطهارة يتضمن الوضوء والغسل وأنواع المياه وغيرها، ولكن لماذا فقه الطهارة لا يعكس ثقافة نظافة على حياة المصلي وطالب العلم الشرعي؟
نعم هو يتوضأ ويغتسل كما أمر الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك من أجل أن يكون نظيفاً عند لقاء الله في الصلاة خمس مرات في اليوم، وقد بين هذا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمساً، هل يُبْقي من درنه شيئاً" متفق عليه، وفي رواية عند مسلم "هل يبقى من درنه شيء؟" قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً قال: "كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"، فالوضوء والصلاة ينظفان أوساخ البدن والروح وهي الخطايا.
ولكن هل أصبحت النظافة ثقافة عامة عند المصلى أو طالب العلم الشرعي؟ هل بيته أو مكان عمله أو سيارته أو مسجده أو حيه أو شارعه نظيف؟ وهل يحرص على تطبيق النظافة؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنظافة الدور والبيوت في ما روي عنه صلى الله عليه وسلم:        "طهروا أفنيتكم"، والفناء هو الرصيف بلغة اليوم.
فالتقصير في النظافة على المستوى الشخصي بعدم التزام (سنن الفطرة) من كثير من المصلين، وعدم نظافة أمكان العمل والسيارات والمساجد، هي نوع من فصل النظافة عن الدين وعبادة، مما قد يجعلها علمانية خفية أو مقنعة!
أيضا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بل وتشديده على استقامة الصفوف في الصلاة، واخباره أن الخلل في استقامة الصفوف له انعكاس على اختلاف قلوب الناس في المجتمع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" متفق عليه، وقال أيضاً: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم" رواه مسلم.
هل هذا التعليم النبوي والتحذير الصريح والمباشر بأهمية النظام والترتيب في الصلاة، له انعكاس على شخصية المصلين في اتباع النظام والدور في قضاء حوائجهم، أم أننا نرى فوضى عارمة في كل مكان إلا إذا كان هناك رقابة أو نظام اجباري، وحتى على مستوى القيادة هل هناك التزام بالنظام والدور والترتيب في الاصطفاف أو التجاوز أو غير ذلك.
هل المصلى الذي لا يضع سيارته في مكان مناسب لا يضايق الطريق ولا أحد من جيران المسجد حين يصل المسجد، هو مصل اكتسب ثقافة النظام والدور من الصلاة؟ أم عنده فصل بين الصلاة والنظام والترتيب.
هل المصلى الذي لا يضع حذائه في المكان المناسب في المسجد هل استفاد من تكرار تسوية الصفوف في كل صلاة؟
هل هذا الفصل بين طقوس شعيرة الصلاة وهي عمود الدين، وبين أثارها كحسن الاصطفاف بين يدي الله عز وجل في داخل المسجد، وسوء الاصطفاف أمام منازل جيران المسجد، هو نوع من العلمانية الخفية التي تفصل الدين والإسلام والشريعة والعبادة عن الحياة.
الأمثلة على هذه العلمانية المقنعة كثيرة ومتعددة ولعل وهذا هو سبب عدم اكتمال دائرة النصر والتمكين، فصحيح أن الأمة المسلمة قد عادت قطاع كبير منها للتمسك بالعبادات والمفاهيم الدينية، وأصبح الاعتزاز بالهوية الإسلامية مصدر فخر، إلا أن عدم تجاوز تأثير ذلك الالتزام لدائرة الطقوس والشعائر، جعل الأمة لا تزال تراوح مكانها غالبا على صعيد النهضة والتقدم.
بينما حين تنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، كان الإيمان والعمل قرينان في وجدان وسلوك الصحابة الكرام، ذلك الإيمان والعمل الشامل الذي لم يعرف ثنائية الدين والدنيا المتناقضة كما هو حادث في واقعنا اليوم.
فالتزام الدين والعبادات كان سبب نمو ودوران حركة العلوم الرياضية والجغرافية والهندسية، وغيرها من العلوم، وكمثال على ذلك الارتباط الإيجابي بين العلوم الدنيوية والدين وشعائره، حين جلست أتوضأ من الميضأة (تشبه النافورة، ولها حنفيات في الجدار الخارجي للوضوء) في ساحة مسجد الفاتح بإسطنبول، لفت نظري تناسق التصميم المعماري لها مع الاستخدام العملي اليومي، تأملت الفارق الكبير بين الراحة والعملية في هذه الميضأة وبين أماكن الوضوء في مساجدنا الحديثة، والتي تختلف من مسجد لأخر وغالباً هي غير مريحة ولا عملية.
هذه الميضأة عمرها يتجاوز 100 عام على أقل تقدير، حيث المسجد اكتمل بنائه أول مرة سنة 1470م، ثم تعرض لزلزال سنة 1509م، وتضرر كثيراً ولكن تم إصلاحه، لكن تهدم المسجد بالكامل بعد سلسلة زلازل كان أخرها عام 1766م، فأعيد بنائه من جديد واكتمل على صورته الحالية سنة 1771م.
المهم لا أدرى هل لأن بناء نافورة الوضوء هذه تم من قبل مهندسين مسلمين ومصلين فهم يعرفون حاجة المتوضأ فتم تلبية احتياجه!
فالمقعد مناسب الارتفاع لا طويل ولا قصير، وليس قريب من الحنفية ولا بعيد عنها، وهناك مكان لوضع القدم في الجدار يساعد المتوضئ بشكل مدروس بعناية، والحنفيات لا تزال تعمل بكفاءة برغم عمرها المديد، والماء لا يتجمع في الحوض بل ينزلق بانسيابية للخارج، مما يدل على هندسة واتقان بديع كسائر دقة بناء المسجد من توزيع النوافذ والأعمدة وتركيب القباب على بعضها البعض.
بينما في مساجدنا اليوم فتجد المقاعد غير عملية ولا مريحة والحنفيات غالباً غير مناسبة ولو كانت من أفخم الأنواع لكنها لا تلبى حاجة المتوضئ، وتصريف المياه يعاني مشاكل غالباً، فهل السبب أن المهندسين أو المقاولين ليسوا من أهل الصلاة فلا يعرفون المطلوب، أو ليسوا من أهل الذكاء ليصلوا إلى تحقيق المطلوبة بدقة وإتقان.
الخلاصة يبدو أننا بحاجة إلى تطوير خطابنا الفقهي ليتضمن بوضوح وصراحة ربط الدنيا بالدين ليصبح ذلك سلوكاً وثقافة دائمة، تحقق لنا النهضة والتقدم كما فعلت من قبل مع أسلافنا مراراً وتكراراً.
وإلا كنا معشر الإسلاميين النظير الموضوعي لما نعيبه على الحكومات من ابعاد الدين عن السياسة والحكم بإبعاد الدين عن حياتنا نحن وسلوكنا الاجتماعي العام.