بعد أن بينا، في الأسبوع الماضي، أن ضعف الإيمان وقلة التدين هو علة الأمة الإسلامية، نبين اليوم الدواء القرآني الذي يشفي من تلك العلة، وهو قوله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (آل عمران، الآية 103). يقول العلامة ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: "وقوله: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء. والاعتصام هو طلب ما يمنع، والحبل: ما يشدّ به للارتقاء، أو التدلّي، أو للنَّجاة من غَرَق، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط. وقوله: "جميعاً" الأمر باعتصام الأمة كلها بحبل الله، وهو الدين أو القرآن. وقوله: "ولا تفرقوا" تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً، بأمر ثانٍ هو طلب الاتحاد في الدّين، وقوله: "واذكروا نعمت الله عليكم" تصوير لحال فرقتهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق. وقوله: "إذ كنتم أعداء" معتبر فيها التَّعقيب من قوله: "فألف بين قلوبكم". إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة. والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكانوا جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنها كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء لبعضهم بعضا، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن. ولقد حاول حكماؤهم وأولو رأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر، فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوة، وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها. وقوله: "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها". فهي نعمة أخرى؛ نعمة الإنقاذ من حالة بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات، وهي حالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك بسبب القتال الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله: تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم... والآية كشف عن الامتنان بنعمتين محسوستين، هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر. وقوله: "كذلك يبين الله لكم آياته" نعمةأخرى، وهي نعمة التَّعليم والإرشاد، وأيضا إيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم". (انتهى كلام العلامة ابن عاشور باختصار وتصرف يسير). والخلاصة هي أن الآية الكريمة تجمل الدواء للأمة الإسلامية في قضيتين، هما: الاعتصام بحبل الله عز وجل، وهو هداية الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية. والقضية الثاني، هي الوحدة وعدم التفرق بعدم التمسك فيهما وبهما. وهذا الدواء جربه المسلمون مرات عديدة عبر تاريخهم. فقد كانوا ضلالا يتخبطون في الجاهلية قبل الإسلام، فجاء الإسلام ونقلهم إلى النور، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا" (النساء، الآية 174). وهذا هو التنوير الحقيقي الذي يجب الركون إليه، وليس سراب تنوير البشر الذي لم يزد الناس إلا تعاسة وشقاء. ففي ظل هذا التنوير الأخير قامت الحروب العالمية التي قضت على ملايين البشر، واستخدمت القنابل النووية، ومن قبل استعبد الملايين من قارة أفريقيا، ونهبت خيراتها وثرواتها، وباسم التنوير تستفحل في العالم أمراض الزنا والمسكرات والمخدرات. وحماية للتنوير تبقى إسرائيل تحتل فلسطين وتعربد فيها! وقد جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنقلت الناس من الظلمات إلى النور، وجمعت كلمتهم بعد تفرقها في أودية الباطل والغواية. وبقيت سنة الله عز وجل الكونية مستمرة في المسلمين، كلما تمسكوا بحبل الله عز وجل قرآناً وسنة، فتوحدت كلمتهم وتجمعت قوتهم. وكلما خفت قبضتهم على حبل الله عز وجل وتفلت حبل النجاة منهم، غرقوا وضاعوا في بحار الشهوات والشبهات؛ فتلطخوا بالمهانة والضعف والهزيمة، وأصبحوا لقمة سائغة للمفترسين والطماعين. وكلما بحثت أيديهم عن حبل الله عز وجل فتمسكت به، اقتربت من شاطئ النجاة والأمان. وهذا ما تكرر في تاريخ أمة الإسلام أيام المغول والصليبيين والاستعمار وهكذا. ومهما حاول المسلمون البحث عن حبل آخر بخلاف حبل الله عز وجل، فإنهم سيبقون غرقى وفي ضياع، ولو تحسنت ظاهريا بعض أحوالهم. والتمسك الصحيح بحبل الله عز وجل، والذي يحقق النجاة الكاملة في الدنيا والآخرة، هو التمسك بأحكام الإسلام كلها، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً" (البقرة، الآية 208). وهو التمسك بالإسلام على طريقة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي علمها أصحابه الكرام، من دون إفراط ولا تفريط؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" (رواه البخاري). والتمسك بحبل الله عز وجل هو الذي يجمع القلوب ويوحد الصفوف؛ إذ الإسلام بعقيدته وعباداته يقوم على ترسيخ الوحدة، فالرب الخالق الرازق واحد، والإله المعبود المطاع واحد، والمنشأ للبشرية واحد، والخاتمة للبشرية واحدة، والكائنات والموجودات تخضع لقانون واحد، والقبلة واحدة، والأحكام الشرعية واحدة. وكل هذا يجعل الأمة موحدة في فكرها وسلوكها وخلقها وموقفها، فتتعاظم قوتها وتتوحد كلمتها. وعندها تجتمع لها قوة عقيدة التوحيد، وقوة الأخلاق الفاضلة، وقوة العلم، وقوة العمل، وهيهات أن تهزم مثل هذه الأمة. وللأسف، فإن أعداء المسلمين يعرفون هذه الحقيقة أكثر من كثير من المسلمين، ويخشونها ويسعون جادين في منعهم من التمسك بحبل الله عز وجل، ولكن "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة، الآية 21).
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. . دواؤنا
2014/12/01
الرابط المختصر
Image