بيّن الله سبحانه تعالى لنا في سورة المؤمنين طرفاً من حال جدال الكافرين والمتشككين في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، وهو نهج ومسار لا يزال يعتنقه الكثير من البشر اليوم، فقال تعالى: "حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون* لا تجئروا اليوم إنكم منا لا تُنصرون* قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تَنكصون* مستكبرين به سامراً تهجرون* أفلم يدّبّروا القول أم جاءهم ما لم يأت ءابآءهم الأولين* أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون* أم يقولون به جِنّة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون* ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون" (64-71).
وفي تفسير الآية الأخيرة من هذا النص القرآني نجد المفسرين على ثلاثة أقوال في معنى الحق، هي:
الحق: هو الله عز وجل، الحق: هو القرآن الكريم، الحق: ما يقابل الباطل، "ولا تعارض بين هذه الأقوال الثلاثة بل بعضها يكمل بعضاً فلا يمكن للمشرع (الله سبحانه وتعالى)، ولا للتشريع (القرآن)، ولا نتيجة التشريع (الحق) الذي به صلاح العباد، في عاجلهم وآجلهم، أن تكون تابعة لأهواء البشر فينضبط أمر الوجود ويسير نظام الكون دون خلل ولا اضطراب".
أما الأهواء التي تفسد السماوات والأرض فهي تشمل:
- أهواء كفار قريش بجعل شركاء لله سبحانه وتعالى في الملك والتدبير والطاعة "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" (الأنبياء: 22)، وذلك لتنازع الآلهة المفسد والمدمر، وهو ما يخالف الواقع في الكون من النظام والإتقان والإحكام، بخلاف ما يشيع في خيالات اليونان وأساطيرها، والتي يعاد إحياؤها اليوم في أفلام السينما وبرامج الكرتون للأطفال!!
وفي واقعنا السياسي نرى كيف تحطم العراق بسبب تصارع الأمريكان والإيرانيين وهما بشر لديهم قوة ظالمة، فكيف سيكون حال الكون لو فرض وجود آلهة تتصارع؟
- أهواء من يجعلون لله عز وجل ولدا "ما اتخذ الله مِن ولد وما كان معه مِن إله" (المؤمنون: 91) لأن الولد يحمل صفات أبيه، وهذا يقتضي تعدد الآلهة الذي يلزم منه فساد الكون، فنظام الكون ودقته متوقفة على توحيد الخالق الصانع المدبر له وهو الله عز وجل، والذي يلزم منه، أنه كما تفرد بإتقان الخلق والتدبير، فهو أيضاً متفرد بإتقان التشريع والأمر والحكم "ألا له الخلق والأمر" (الأعراف: 54)، "فتبارك الله أحسن الخالقين" (المؤمنون: 14)، "أليس الله أحكم الحاكمين" (التين: 8).
- أهواء منكري البعث واليوم الآخر، يقول الإمام ابن عاشور في تفسيره: "فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل؛ فلم يعمل أحد خيراً إذ لا رجاء في ثواب. ولم يترك أحد شراً إذ لا خوف من عقاب، فيغمر الشرُّ الخيرَ، والباطلُ الحقَّ، وذلك فساد لمن في السماوات والأرض، قال تعالى: "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون" (المؤمنون: 115)".
- أهواء العصاة والفساق بإباحة الشهوات من الزنا والربا والكذب والخداع والشهوة والظلم، أو بإسناد التشريع المطلق لأهواء الناس ورغباتهم، ونظرة على واقع البشرية اليوم تكشف لنا بوضوح عن ضخامة الفساد بكافة أشكاله في العالم بسبب عدم اتباع الحق الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم والسنة النبوية من عند الله عز وجل.
فمخالفة أمر الله عز وجل بتحريم الربا لم تجلب للبشرية إلا الدمار والخراب، هذه حقيقة مسلّمة بها عند الباحثين من كل دين، برغم ما قد يحصل من منفعة قصيرة ومحدودة كحال نشوة مدمن المخدرات، الاقتصادي الألماني جوهان فيليب بتمان في دراسة له بعنوان: كارثة الفائدة، يوضح كيفية إضرار الربا بالاقتصاد فيقول: «كلما ارتفعت الفائدة تدهور النقد، فكما يؤدي الماء إلى رداءة عصير البرتقال أو الحليب تؤدي الفائدة إلى رداءة النقود، قد يبدو الأمر أننا نسوقُ تعبيراتٍ أدبية أو أننا نبسطُ المسألة ونسطحها؛ ولكن الحقيقةَ أن هذه العبارة السهلة البسيطة هي في الواقع معادلةٌ سليمةٌ وصحيحة تدل عليها التجربة ويمكن إثباتها، فالفائدة العالية تُدمِّر قيمة النقود، وتنسف أيَّ نظامٍ نقدي ما دامت تزيدُ كل يوم، وتتوقفُ سرعةُ التدمير وحجمُه على مقدارِ الفائدة ومدتها» اهـ.
أما موريس آليه الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد فيشخص الاقتصاد العالمي وكأنه صالةُ قمار واسعة، ليس الأمرُ فيها يتصل بالمقامراتِ غير المحسوبة فحسب، وإنما هناك من يبيع دائماً ما لا يملك، ومن يشتري من دون أن يدفع ثمناً، ومن يتظاهر بأن هناك أسهماً لشركات وما هي في الواقع بشركات، ومن يقيد بالدفاتر ملياراتٍ كبيرة دون أن يراها، ودون أن يقابلها رصيدٌ من أي نوع، وأن الفائدة الربوية هي المسؤولة عن المصائبِ الكبرى في النظام النقدي العالمي، وهي المسؤولة عن التضخم، وهي المسؤولة عن ضياع الأموال وعن عجز دفع المدينين ديونهم.
أما على صعيد الصحة والتجارة والبيئة فقد انعكست البيئة الربوية الباحثة عن الربح الفاحش دون اعتبار للدين والشريعة إلى توحش التجار والمعلنين في ترويج سلع استهلاكية وكمالية بدعايات مضللة وخادعة، سرعان ما ظهرت آثارها السلبية والكارثية على البشر والبيئة، بينما الله عزوجل والحق والشريعة والنبي صلى الله عليه وسلم يأمرون البشر ويرشدونهم للاقتصاد والرشاد وعدم الانسياق وراء الشهوات والمتع بشكل جنوني، والحرص على مراعاة سنن الله عز وجل في قوانين صحة الإنسان وسلامة البيئة.
فجرياً وراء سراب الإعلانات بالمتعة واللذة والطعم السحري أصبحت السمنة وتوابعها مرض العصر الذي يقتل الأغنياء شبعاً، كما يقتل الجوعُ الفقراء! وأصبحت أساليب الحياة الحداثية والعصرية سبباً رئيسياً لقتل أطفالنا بالسرطان، فبحسب دراسة حديثة زادت نسبة الإصابة بسرطان القولون عند الأطفال دون سن 14 سنة 200% منذ عام 1998 في بريطانيا!
أما مصائب تجارة الترف والاستهلاك على البيئة فهي لا تحصى من خطر انقراض بعض أنواع الحيوانات والطيور بسبب الطمع في جلودها وفرائها وريشها! أو توسع مشكلة الأوزون بسبب انبعاثات المصانع الضخمة للمنتجات الاستهلاكية جرياً وراء المتعة وتقليد النجوم فتزيد من فقر الفقراء وتخرم الأوزون!
وحين خالفت البشرية أمر الحق سبحانه وتعالى في قضية العلاقة بين الرجال والنساء لم تجنِ من ذلك إلا الشرور والأوجاع، فسرطان الجلد ينتشر بشكل أكبر عند النساء اللاتي يلبس الملابس القصيرة والعارية بحسب الدراسات الطبية، كما أن مرتكبي الزنا والفواحش تطحنهم الأمراض الجنسية الخطيرة وعلى رأسها (الإيدز) لأن الزنا والفواحش والشذوذ تتصادم مع أوامر الله عز وجل الحق الدينية والدنيوية.
ومع هذه العقوبات الربانية الصحية فإن المجتمع تنتشر فيه الجرائم بسبب ذلك إما بالتحرش الجنسي حيث تتعرض نصف نساء بريطانيا للتحرش بحسب دراسة للنقابات العمالية البريطانية نشرها موقع الجزيرة نت، كما أن الجيش الأمريكي يعد أكثر الأماكن التي تشهد عمليات تحرش جنسي بالنساء حيث هناك 19 ألف حالة تحرش سنوياً، ونادراً ما يتم معاقبة المتحرش! وهذا هو مستقبل انتشار التبرج والاختلاط والتحلل من الحجاب في المجتمعات الإسلامية لمن يعقل!
ففي المغرب التي تعد أكثر الدول العربية استخدامًا لـ (وسائل تنظيم الأسرة) نجد أن تطبيقات المواثيق الدولية للمرأة والطفل (سيداو) لها نتائج كارثية على هذا البلد المسلم حيث يتم سنويا تسجيل نحو 30 ألف حالة لأم عازبة، أي زانية، غالبيتهن من الشابات اللواتي لم يسبق لهن الزواج واللاتي تقل أعمارهن عن 26 سنة، و32 % منهن ما بين الـ 15 والـ 20 سنة! وهذا هو الحال الذي يهدف دعاة العلمنة والدولة المدنية للوصول إليه باسم الحرية الشخصية وكف الدين عن الشأن العام، والحقيقة أنها حرية الوصول للمرأة المسلمة.
والواقع يحدثنا اليوم عن احتمال انقراض المجتمعات الأوربية بسبب رفض أحكام الحق سبحانه وتعالى في بناء الأسرة ورعاية الأبناء، وبدلاً من ذلك تم هدم مفهوم الأسرة الذي تعرفه كل الفطر السليمة والمكون من زوج وزوجة وأولاد، لصالح مفاهيم حداثية مدمرة للأسرة والمجتمع من مثل أم وطفل أو أب وطفل أو زوج وزوج أو زوجة وزوجة، ولعلهم يضيفون في المستقبل زوج/ زوجة وحيوان! وبسبب انقراض هذه المجتمعات الأوربية لانعدام المواليد أو قلتهم مقابل الوفيات طرح بعض القادة منهم فتح الباب لهجرة اللاجئين لأوروبا لتجديد شبابها، لكن القوى العنصرية والمتشددة والمتعصبة مسيحياً رفضت أن يكون اللاجئون مسلمين وتصر على تنصيرهم أو منعهم وإعادتهم.
أما الإصرار على رفض تحريم الله عز وجل لأم الخبائث الخمر وأخواتها فلم يجلب للعالم إلا الحوادث والكوارث والأمراض وكان وسيلة للطغاة لفرض عدوانهم كحال حرب الأفيون في الصين، ولا تزال تجارة المخدرات إحدى أدوات الميلشيات العدوانية والطائفية كحزب الله اللبناني كما كانت أداة كثير من الدول المحتلة من قبل، ولهذا تسمح دولة اليهود لمروجي المخدرات بالعمل بشكل شبه علني في مدينة القدس بين الشباب الفلسطيني لتعجل بهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم.
لقد علّمنا الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أن البشر لو فُوض إليهم الحكم لساد بينهم الظلم والفساد واحتكار الخيرات، قال تعالى: "أم لهم نصيب من المُلك فإذًا لا يُؤتون الناس نقيرا" (النساء: 53)، وقال تعالى: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذًا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا" (الإسراء: 100)، وهذا هو واقع النظام الدولي العالمي الذي يحتكر منافع العالم ويمنع محاولات كثير من الدول النامية من النهوض، ومن أمثلة ذلك احتكار البذور الزراعية الأساسية في العالم من خلال إنتاج بذور معدلة جينياً تكافح الآفات لكنها عقيمة لا تصلح إلا لمرة واحدة مما يجعل من الدول المنتجة لها تتحكم ببقية دول العالم في لقمة عيشها، وهذا ما فعلته دولة اليهود ضد الزراعة المصرية حيث أمدتهم ببذور خربت التربة المصرية وجعلتها أسيرة للبذور اليهودية!
وعلى المستوى السياسي فأداء مجلس الأمن تجاه إبادة الشعب السوري على يد الطاغية بشار نموذج مثالي لتقتيل الدب الروسي للشعب السوري الضحية مع رضى الذئب الصيني، فيما العم سام لا يكترث بعدد الضحايا طالما أن البديل الذي يقبله اليهود عن المجرم بشار لم ينضج بعد!
وأخيراً؛ وبعد أن بيّن لنا الله الحق عز وجل خطورة ترك الحق الواضح الواحد غير المتعدد ولا المتناقض ولا المتبدل بحسب القوة أو الهوى، أعلمنا أنه أنزل إلينا القرآن الكريم لغاية عظيمة فقال تعالى: "بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون"، لقد جاء القرآن الكريم ليكون قائداً للبشرية لما فيه عزها وفخرها، وقد تحقق هذا للأمة المسلمة عشرات القرون حيث كانت مركز الإيمان والعدل والرحمة والعلم للعالم، ولا نزال لليوم نفخر بديننا وشريعتنا التي حوت الإيمان والعدل والعلم والرحمة، ولا نزال لليوم نفخر بتاريخنا المجيد، ونفخر بحاضرنا وما فيه من عزة وإباء ترفض فيه الخنوع للمحتل والظالم والطاغية ونفخر بإيماننا وإسلامنا في وجه كل الشبهات والشهوات، ونفخر بشبابنا الذي رغم قلة الإمكانيات إلا أنه ينافس شباب العالم في الإيمان والخلق والعلم والمعرفة ولذلك يُستهدف من خلال هجرة العقول للغرب، ونفخر بعلاقاتنا الاجتماعية والأسرية في وجه موجات الانحلال والتفكك.
وفي مقابل إقبال آلاف البشر على الدخول في الإسلام من مختلف الديانات والثقافات لما في الإسلام من شرف وعزة، تنتكس فطرة بعض المسلمين فيُعرضون عن الحق الذي جاء به القرآن الكريم، فوا أسفاه.
"ولو اتبع الحق أهواءهم"
2016/09/01
الرابط المختصر
Image