أهذه هي الآية السابعة من سورة الروم "يعلَمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"، وهي تلخّص حقيقة الصراع بين المؤمنين بالقرآن الكريم ودين الإسلام، والكافرين بالقرآن الكريم ودين الإسلام منذ نزول القرآن على نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام وحتى عصرنا الحاضر، والذي سيمتد في المستقبل حتى يرث الله عز وجل الأرضَ ومَن عليها.
في تفسير هذه الآية يقول الإمام ابن عاشور في تفسيره: "أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا. وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة. والكلام يشعر بذم حالهم، ومحطُّ الذم هو جملة (وهم عن الآخرة هم غافلون). فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمَذمة لأن المؤمنين كانوا أيضاً يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالماً آخر هو عالم الغيب.
وقد اقتُصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصاراً بديعاً حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالاً لجهلهم بعالم الغيب وذَمّاً لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهمالِ الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء... وعُبِّر عن جهلهم الآخرة بالغَفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيهاً بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر".
فالآية السابقة تشير بوضوح لوجود نوعين من العلوم هما: علم الدنيا، وعلم الآخرة، وأن علم الدنيا له مستويان، الأول علم دنيوي ظاهري لا يحقق لصاحبه معرفة الحقيقة في الدنيا أو الآخرة.
ويتمثل العلم الظاهري للدنيا في جانبين هما:
الجانب الأول: جهل غير المؤمنين بحقيقة الغاية من هذا الوجود الكوني العجيب
فهل يعقل أن لا يكون لهذا الكون العظيم والممتد والمتوسع عبر الزمان والمكان حكمة وغاية لوجوده؟
لقد احتاجت البشرية آلاف السنين لفهم دقائق آليات توسعه وتمدده ولا تزال تكتشف الكثير من ذلك، ووضعت فرضيات لنشأته وحدوثه، ولكن كل هذه العلوم والمعارف والفرضيات تشترك في أن وجود الكون محكوم بقوانين دقيقة جداً ومعايير وموازين ونِسب في غاية التناسق والتناسب بحيث لو اختلت نسبة واحدة منه لتهدّم، فهل كان هذا عبثاً!
علماء الفلك والفضاء اليوم وعلى أسس علوم الفلك التي عدّلها وطوّرها وأضاف لها المسلمون الكثير الكثير في القرون السابقة يفترضون أنه قبل حوالي 15 مليار سنة كان الكون مكثفا في نقطة أصغر من رأس الدبوس، ثم حدث انفجار لهذه النقطة المتناهية الصغر، وتسارعت جزيئاتها بسرعة محددة بعناية بحيث لو قلّت عمّا حدث بجزء من المليون مضروب بمليار! لانهار الكون، وما ظهرت المجرات والنجوم والكواكب، ولكن قدرة الله عزو جل جعلت من تلك النقطة كونا أصبحت مساحته تحتاج 93 مليار سنة ضوئية لقطعه!!
والأعجب من هذا أن ذلك الانفجار ولّد طاقة أو حرارة مذهلة بلغت رقم 1 يليه 32 صفرا، وهذه حرارة تعجز عقولنا عن استيعابها، ومع ذلك فإن هذه الحرارة وقوة الانفجار كانت مضبوطة بدقة بحيث أنتجت هذا الكون العجيب ولم تتبدد هذه الحرارة والطاقة هباءً أو تصبح جحيما يلتهم نفسه!!
فالمؤمنون بالقرآن الكريم ودين الإسلام يتعلمون هذه العلوم الدنيوية ولا يرفضونها، بل يطورنها ويساهمون فيها لكنهم أيضاً يؤمنون بما وراءها، كما قال تعالى: "إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار* ربّنا إنك مَن تدخِل النار فقد أخزيتَه وما للظالمين من أنصار * ربّنا إننا سمعنا مُنادِيا ينادي للإيمانِ أنْ آمِنوا بربّكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار" [آل عمران: 190 - 193].
أما الكافرون بالله عز وجل من الملحدين فهم يزعمون أن هذا الكون خَلق نفسه! أو أنه وُجد صدفة! أو أن هناك ربّا خلقه ثم تركه! وغيرهم يزعم أربابا متعددين غير الله عز وجل خلقوا هذا الكون، وهذا كلّه من جهلهم وضلالهم وكون علومهم لا تتناول إلا الظاهر الباطل من علوم الدنيا.
ولذلك فالمؤمنون بالله عز وجل خالقًا لهذا الكون يؤمنون أنه خلَقهم لحكمة عظيمة وهي عبادته وطاعته "وما خلقتُ الجن والإنس إلاّ لِيَعبدون" (الذاريات: 56)، وأنه خلق الكون بكلمة "إنما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون" (يس: 82).
بينما غير المؤمنين يقف علمهم عند حد معرفة ظاهر دقة خلق الله عز وجل للكون، وأنه خلقٌ مضبوط يسير على قوانين دائمة، وأن حياة الإنسان ورقيّها المادي متوقفان على معرفة هذه القوانين الكونية والاتساق معها، وأن هذه القوانين موجودة بالقوة منذ نشأة الكون لكن جهل الإنسان بها وتطوره ومعرفته بها هي سبب تنعمه بها، فالكهرباء موجودة منذ خلق الله الكون لكن اكتشاف الناس لها هو الذي تأخر، ولكنهم يتناقضون حين يؤمنون بأن هناك أسبابا للمسببات ثم ينكرون وجود الله عز وجل نفسه مع وجود الأسباب الداعية لليقين به! وأيضا يتناقضون حين يجعلون كل هذه الأسباب والمسببات لا غاية لها، بينما اختراعاتهم البشرية معللة ولها غايات!
ومن ظاهر علم الدنيا، الذي هو سقف علم البشر وغير المؤمنين تحديداً ما يسمى "بحائط بلانك"، وهو السؤال عن ما قبل انفجار تلك النقطة أو ما يسميه العلماء الصفر المطلق! فلا جواب لدى العلم المادي القائم على الحواس والتجربة! لكن العلم الرباني الذي خلق الخلق يمتلك الجواب، لأن مصادر العلم تتجاوز الحس والتجربة المادية، بينما هؤلاء الملحدون حين عجزوا عن الفهم والعلم أنكروا وجود الخالق، لا أنهم امتلكوا أدلةً على عدم وجود خالق، مما يجعل موقفهم هذا -بمعاييرهم العلمية المادية- موقفا لا علميا ولا عقليا ولا موضوعيا، إذ كيف يكون الكفر والإلحاد علمياً أو عقلياً أو موضوعيا.
ومن هنا جاء إفحام الله للبشرية على مدار تاريخها "ويسألونك عن الرّوح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (الإسراء: 85) فهذه الروح التي يحملها كل البشر وبها يعيشون لكنهم لا يعرفون حقيقتها، هل ننكرها أم نؤمن بأن الله عز وجل خلقَها وأودعها فينا كما أخبرنا في الوحي الرباني بالقرآن والسنة النبوية!
أما الجانب الثاني من العلم الظاهري للدنيا فهو الجهل بالحكم والغايات العظيمة من الأحكام الشرعية: فلا تزال تظهر للناس جميعا منافع الأحكام الشرعية، ففي الاقتصاد أدرك العالم حكمة تحريم الربا وأنه دمار للناس، وكذلك تحريم لحم الخنزير والخمر وما شابههما، وكيف أنهما سمٌّ قاتل، ومثلهما الزنا والتبرج والفواحش وكيف أنها تولد الأمراض المستعصية وتخرب العلاقات الأسرية وتهدم روابط المجتمع، ومثلها تحريم الظلم والطغيان وكيف أنهما مؤذنان بزوال الدول والعمران.
وبالمقابل كيف أن سنن الفطرة وقاية صحية للإنسان، وأن الزكاة دعامة حماية للمجتمعات وأداة حياة للفقراء، وأن نظام الصلاة في الإسلام هو التوقيت السليم لراحة البدن بدلا من السهر المهلك والاستيقاظ المتأخر المنهك، ومَن تأمل نظام الميراث في الإسلام سيجد التوزيع العادل الذي يراعي تنوع المسؤوليات والاحتياجات مما يديم حركة المال في المجتمع دون تراكمٍ ظالمٍ لفئة على حساب فئة، وهكذا بقية أحكام الإسلام وتشريعاته.
كل هذه الحِكم والغايات يجهلها غير المؤمنين بالله عز وجل ودينِه دينِ الإسلام، ولذلك تمضي البشرية في دائرة كبيرة من الشقاء، قد لا تدرك شقاءها في لحظات معينة، لكنها سرعان ما تقع في الضنك والشدة لمخالفتها سنن الله عز وجل في الكون، وما نراه من اشتعال الصراعات في العالَم، وأوربا تحديدا، بين تياراتها السياسية يؤكد قولَه تعالى: "ومَن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكًا" (طه: 124).
ونتيجة لهذا الجهل بغاية الخلق وبحكمة الأوامر الشرعية فإنه هؤلاء يغفلون عن الآخرة والاستعداد لها، ويغفلون أن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف، بل هناك في المستقبل حياة سرمدية أبدية في الجنة أو النار لكنهم "عن الآخرة هم غافلون".
إن حقيقة العلم البشري المادي لا تتجاوز النسبة بين غرفة كبيرة بداخلها كرة تنس! وهذه النسبة قد يكون فيها نوع من المبالغة لتضخيم حجم المعرفة البشرية، ومَن يطالع تسارع حركة تضاعف المعرفة والعلوم يدرك ذلك بكل طمأنينة، ولذلك الإنسان العاقل يعرف عجز قدراته الخاصة عن فهم حقيقة الكون بأدواته المادية، ويسلم بالحاجة للعلم الرباني الذي أرسله لنا وبلّغه لنا رسلُه وآخرهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وما أجمل قول الشاعر:
ومن البليّة أن ترى لك صاحبا في صورة الرجل السميع المُبْصر
فَطِن بكل مصيبة في مالِه وإذا يُصاب بدينه لم يشعر
"يعلَمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"
2017/04/01
الرابط المختصر
Image