التأويل الحداثي للتراث .. التقنيات والاستمدادات

الرابط المختصر
Image
التأويل الحداثي للتراث .. التقنيات والاستمدادات

صدر هذا الكتاب مطلع عام 1435هـ عن دار الحضارة بالرياض، وهو يقع في 400 صفحة من القطع المتوسط.
وكعادة الشيخ أبو عمر إبراهيم السكران جاء الكتاب سَلِساً في لغته، عميقاً في طرحه، ذكيا في فكرته، مستوعباً في مادته، ثريا بمراجعه، غنيا في فوائده وشوارده.
الكتاب يهدف إلى رفع الغطاء عن حقيقة مصدر وعمق وصلاحية الأفكار التي يلوكها الشباب المتعلمن اليوم – خاصة في الخليج- باسم الحداثة نتيجة ما تنشره الصحافة العربية وتقذفه المطابع من أوراق وملازم لأسماء عربية تعتبر أو تعتبر نفسها صفوة النخبة العربية، من شاكلة طيب تيزيني، وحسين مروة، وأدونيس، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وهشام جعيط، وعبد المجيد الشرفي، وفهمي جدعان، ونصر حامد أبو زيد، ووائل حلاق، وغيرهم. 
وقد كشف أبو عمر أن أساطين الحداثيين العرب - وهم عنده المستلهمون لأفق الحداثة الغربية في رؤية العالم، وليس فقط الحداثة الأدبية – إنما هم كالببغاوات يرددون ويعيدون إنتاج المستشرقين وخاصة مدرسة الاستشراق الفيلولوجي، والتي جعلت كل محاسن الإسلام (دين وحضارة) وافدا عليها من الأمم السابقة! وجعلت الدافع المحرك في التاريخ الإسلامي كله بما فيه عهد النبي صلى الله عليه وسلم المكاسب السياسية وليس العقيدة الإسلامية.
وبإثبات هذه العلاقة بين الحداثيين العرب والمستشرقين الأقدمين والمعاصرين تتحطم أسطورة انتهاء عصر الاستشراق الذي لا يزال يعمل بنشاط عبر المستشرقين أنفسهم والذين أصبح يطلق عليهم اسم خبراء، أو عبر الحداثيين العرب الذين يقومون بالترجمة والتوزيع والنشر لأفكارهم باللغة العربية!
ويرجع الإهتمام الاستشراقي والحداثي بتأويل التراث الإسلامي لمقصد يتيم وهو ضرب وتحطيم القوة الإسلامية، وذلك بعد ما شهدته الأمة من عودة للدين وصحوة إسلامية، فكان لا بد من حربها من الداخل لأنها أقل كلفة ولا تثير ضجة تلفت الانتباه، مما قد يحقق مكاسب كبرى لهم.
جاء الكتاب في أربعة أبواب، الباب الأول كان بمثابة مقدمات وتمهيد، حيث عرّف فيه بعلم الفيلولوجيا، وأنه ظهر في مطلع القرن التاسع عشر، وهو علم التحليل الثقافي للنصوص اللغوية المبكرة، وقد ترجمه بعضهم بفقه اللغة، ولكن هذا أوجد مشكلة، لأن مصطلح فقه اللغة مصطلح قديم ومعروف وهو مغاير لهذا المعنى الجديد.
ثم بين أن التطورات السياسية في عالمنا الإسلامي جعلت من المستشرقين مفاتيح فهم وتفسير لما يدور على كل الأصعدة للساسة في الغرب، دون أن يكون عندهم القدرة على ذلك أصلاً، وهو ما نقده عدد من الباحثين الحداثيين لكن لمصلحة مدرسة حداثية على حساب مدرسة أخرى، ولكن النتائج كانت كارثية على الأمة بسبب أخطاء التشخيص!!
واستعرض المؤلف تاريخ علاقة المستشرقين بالتراث، ومن ثم جهود العلمانيين والحداثيين العرب في التعامل مع التراث، مما يعطي القارئ خريطة لجهود الحداثيين في تأويل التراث والتلاعب به.
وأنهى الباب ببيان تطور منهج الاستشراق بعد الفيلولوجيا إلى مدرسة أنثروبولوجيا الإسلام، والتي تدرس المجتمعات الإسلامية من خلال نماذج تفسيرية، وتأثيرها محدود بين الحداثيين العرب، وهناك أيضا مدرسة المراجعين، والتي تقوم على الشك في كل التراث الإسلامي، وتعتمد في دراسة الإسلام على ما كتبه غير المسلمين عنهم من الأمم المعاصرة لهم، ونتاج هذه المدرسة هو ذخيرة لدعاة الإلحاد ومبشري النصارى!!
الباب الثانى خصصه المؤلف لشرح تقنية (التوفيد)، وهي نسبة كل محاسن الإسلام والمسلمين للأمم الأخرى، من أجل طمس عظمة الإسلام ودوره في سعادة البشرية، فيورد نقولات عديدة عن المستشرقين تنزع عن الإسلام كل شيء دون حجة أو دليل ودافعهم في هذا الكُره والبغض، فحتى سورة الجن ينسب معناها ومضمونها جولدزيهر للجاهلية السابقة!!  ثم يستعرض المؤلف كيف قام الحداثيون العرب بإعادة اجترار هذه الطعون والخرافات، فهذا الجابري يقول: "ورثَت الثقافة العربية الإسلامية كل علوم المعقول واللامعقول في الثقافات القديمة"، وقد بدأ هذا الاجترار من جرجي زيدان وأحمد أمين.
ويختم هذا الفصل بمناقشة المسألة والتمييز بين الوافد الأجنبي والذي شكّل في الإسلام البدع والخرافات والعودة للعادات الجاهلية، والذي رصده علماء المسلمين ونسبوا الأقوال والأفكار لأصحابها ومن أين استمدوها.
وبين الوافد الأصلى وهو المشترك في الوحي الإلهي في تاريخ البشرية كالتوحيد وأركان الإيمان والإسلام.    
الباب الثالث جاء لبيان التقنية الثانية للمستشرقين وأتباعهم الحداثيين، في تسييس البواعث الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي، لطمس دور التوحيد والعقيدة الإسلامية في مجريات الحضارة الإسلامية، فأورد نماذج من تعسف المستشرقين في تفسير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ المسلمين، ثم يشفعها بنماذج عربية، ثم يناقش بعض الأمثلة ومنها زعمهم أن الإمام الزهري اختلق حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، ليدعم موقف عبد الملك بن مروان ضد ابن الزبير!
والعجيب أن الزهري ولد سنة 51 هـ وابن الزبير قُتل عام 73 هـ، والزهري وفد على عبدالملك سنة 82 هـ، وهذه المصادمة للتاريخ والواقع تكشف عبث كثير من التحليلات الاستشراقية وعبث اجترارها الحداثي.
أما الباب الرابع الذي يشكل نصف الكتاب فهو دراسة مفصلة عن موقف المستشرقين من محنة الإمام أحمد وكيف تم التلاعب بها وتزييف الحقائق، وكيف قام الحداثيون العرب –فهمي جدعان- بإعادة اجترار ما قاله المستشرقون في كتابه (المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام)، والذي أثبت المؤلف أنه سرقة علمية لأفكار المستشرق الألماني (فان إس)!!
وقد توسع المؤلف في مناقشة محنة الإمام أحمد، كنموذج تفصيلي لكيفية ظهور الفكرة المنحرفة عند المستشرقين ومن ثم كيفية تسربها للحداثيين العرب، ومن ثم انتقالها للصحافة والإعلام العربي، ثم يتشربها الشباب الغر على أنها فتوحات حداثية عربية!!
بعد هذا العرض الموجز لمحتويات الكتاب، يختم أبو عمر ببعض النتائج منها التحذير من النقد الخاطئ للاستشراق، برفض بعض نتائج المستشرقين السليمة!
ختاماً أعتقد أن من يبدأ في قراءة الكتاب لن يتمكن من التوقف حتى يصل إلى نهايته كما حدث معي، وذلك لرشاقة الأسلوب وسلاسة العرض ومتانة المعلومة.