تتعالى في الغرب اليوم التحذيرات من قرب فنائه بسبب تناقص عدد المواليد قياسا بعدد الوفيات فيه، وبحسب بات بوكانان في كتابه "موت الغرب" فهناك 17 بلدا أوروبيا تتزايد فيها معدلات الوفيات بوتيرة أسرع من معدلات المواليد، وهي: بلجيكا وبلغاريا وكرواتيا والتشيك والدنمارك وإستونيا وألمانيا والمجر وإيطاليا ولاتفيا وليتوانيا والبرتغال ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا وروسيا وهي بلدان مسيحية، بعكس ألبانيا ذات الأغلبية المسلمة التي يتكاثر فيها السكان بشكل طبيعي وترتفع عندهم معدلات المواليد!! ولعل هذا التكاثر لدى المسلمين هو من أسباب سكوت بعض دول الغرب على إبادة البوسنة، وعرقلة انضمام تركيا للاتحاد الأوربي. وانخفاض الإنجاب هذا هو نتيجة طبيعية لإفرازات موجة الحداثة وما بعد الحداثة المادية بخلفياتها العلمانية الماركسية والإباحية، فقد روجت الحداثة لشعارات ملتبسة عديدة مثل: تحرير المرأة من سجن الأسرة، وحق المرأة في الاستقلال من سيطرة الرجل، وحرية المرأة في جسدها والاستمتاع به، بدعوى أن "الزواج السجن الأبدي للمرأة يقطع آمالها وأحلامها"، بحسب "سيمون دي بوفوار" (1908-1986) عشيقة منظر الفكر الوجودي بول سارتر. وشهدت المجتمعات الغربية تغيرات في دور المرأة وشيوع منظومة قيم جديدة في العلاقات الزوجية ساهم في رواجها اختراع الغسالة الذي خفف كثيرا من أعباء المرأة في المنزل، ثم كانت الخطوة التالية بصرف المرأة عن العمل في بيتها لنفسها وزوجها وأطفالها لتعمل لصالح مديرها ورئيسها، وذلك إبان الثورة الصناعية حيث المرأة تعتبر عاملا خانعا وصاحب أجر منخفض مقارنة بالرجل، كما أنها تلبي نزوات المدراء وأرباب العمل، وبدلاً من قيام المرأة بأعباء البيت تصرف راتبها على استئجار من يقوم بذلك من خدم أو مطاعم ومحلات غسيل وكي وهكذا. ومن ثم جاءت منتجات الحداثة لتساعد على رواج هذه الشعارات مثل حبوب منع الحمل، والتي شجعت المراهقين على الإقدام على الجنس دون خوف العواقب، وبعدها عمليات الإجهاض، ورافق هذا تصاعد الأفكار الإباحية التي تحث الشباب على الإنغماس في الشهوات والملذات المحرمة، حتى قيل بحاجة كل ثانوية في أمريكا لغرفة ولادة للنسبة العالية للطالبات الحوامل، واعتمد هذا كله على نظريات فلسفية وورؤى فكرية تبرر وتشرْعن هذا الانحلال الخلقي والسعار الجنسي، فانتشرت الأمراض الجنسية التي انتهت بظهور الإيدز الذي خطف مئات الملايين من أرواح الشباب بسبب ارتكابهم لكل أنواع الفواحش الجنسية. وهنا كانت نقطة التلاقي بين أصحاب الأهواء وأصحاب المصالح، فأصحاب الأهواء وجدوا مناخاً مناسبا لبث سمومهم وأحقادهم، وأصحاب المصالح وجدوا سوقاً واعداً مبشراً ببيع كثير، فحولت النظريات الإباحية إلى أعمال ثقافية وفنية من روايات ومسرحيات وأفلام ومعارض، فراجت هذه الأفكار من جهة وتضخمت الأرصدة من جهة أخرى، فمثلاً نشرت صحيفة "المصريون" في 20/4/2010 أن تجارة الأدوات الجنسية في مصر ازدهرت خلال السنوات الأخيرة وأن شركات إسرائيلية تقوم بتصدير بضائع جنسية إلى مصر تتمثل في شرائط جنسية وأعضاء جنسية صناعية ومجلات جنسية يتم إدخالها إلى مصر بطرق غير مشروعة تقدرها بعض المصادر بـ 250 مليون دولار سنويا. ولكن الثابت الوحيد في كل هذه المراحل الطويله هو حرب مفهوم الأسرة والعفة، ولذلك يطرح مندوبو الحداثة وما بعدها اليوم أشكالا جديدة للأسرة لشرعنة الزنا والشذوذ، مثل اعتبار الزانية وطفلها، واعتبار الشركاء المثليين أسراً محترمة!! وحين ألغت ما بعد الحداثة مؤسسة الزواج الشرعي الذي تقره كل الأديان، كان البديل الذي قدمته هو الفوضي الكاملة في مجال الجنس من خلال إباحة كل أشكال وصور الجنس ولو مع الحيوانات، مع رعاية الدولة لما ينتج عن ذلك من أمراض وأضرار وأطفال. وللأسف أن هذه المسيرة المريضة قد أصابت مجتمعاتنا نوعا ما، وأحدثت اختلالات خطيرة في بنية المجتمعات الإسلامية، بسبب ما فيها من تناقض وتضارب حتى مع بعضها البعض لكونها نتاج عقول بشرية مختلفة الأمزجة والأهواء، وبسبب عدم سلامة وصحة كثير من منتجات هذه الحداثة نفسها، مثل تضخيم النزعات الاستهلاكية والفردية المفرطة، وزعزعة القيم والمعتقدات الدينية. ومن آثار الحداثة وما بعدها في مجتمعاتنا خلخلة نظام الزواج، فبعد أن كانت المسافة بين البلوغ والزواج لدى الفتيان والفتيات لا تتجاوز بضع سنوات، أصبحت تمتد لعقد أو عقدين!! وذلك بسبب تغير نمط الحياة وصعوبة تكوين أسرة في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة وارتفاع كلف الزواج بسبب شيوع ثقافة البذخ والإسراف. وفي ظل عصر الحداثة وما بعدها، فإن الخيارات المتاحة أمام الشباب والشابات بسبب تأخر سن الزواج هي: 1- الصبر والاستعفاف عن الوقوع في الحرام حتى يتمكنوا من الزواج، وهذا هو الغالب على الشباب والشابات في هذا الجيل نتيجة لجهود الصحوة الإسلامية المباركة، وبدأ الغرب يشهد ظهور مجموعات شبابية تتعاهد على العفة حتى الزواج، في عودة للفطرة السليمة بعد هذا السعار الجنسي المجنون الذي يشهده الغرب. 2- ظهور أشكال جديدة من الزواج التي تتوفر فيها أركان الزواج الشرعي مع تنازل المرأة غالبا عن بعض حقوقها كزواج المسيار الذي يجيزه البعض مع الكراهة. 3- ظهور أشكال متنوعة من العلاقات الجنسية باسم الزواج لا تتوفر فيها أركان الزواج الشرعي، مثل ما يروج بين طلبة الجامعات من الزواج العرفي بأشكاله وطرقه المتعددة، وزواج المتعة، وهذه العلاقات الجنسية يرفضها الإسلام لعدم شرعيتها، ولكن العجيب أن يرفضها مندوبو ما بعد الحداثة فقط لإطلاق وصف "زواج" عليها، إذ أنهم يرفضون حتى اسم الزواج!! 4- الوقوع في العلاقات الجنسية المحرمة سواء كانت بمقابل مادي أو بدونه. وتكشف بعض الأبحاث أن "هنالك اتجاها في معظم دول المنطقة نحو بدء النشاط الجنسي مبكراً لدى الشباب ... في لبنان حوالي 48% بين عمر (15-24 سنة) ضمن العينة يقيمون علاقات جنسية خارج إطار الزواج، وأن فقط 42% منهم يستعملون الواقي الذكري، 33% لديهم عدة شركاء جنسيين، وأشارت دراسة أخرى في لبنان أن حوالي 15% من طلاب الصفوف الثانوية من عمر (15-18) الذين شملتهم الدراسة قد أقاموا علاقة جنسية كاملة واحدة على الأقل، وأن حوالي 8.4% منهم هم حالياً ناشطون جنسياً لا سيما الذكور، ... وفي جيبوتي أن حوالي 7% من الشباب مارسوا الجنس مع مومسات وأن 61% منهم لايستعملون الواقي الذكري". أ.هـ ويخلص البحث إلى أن معظم الإصابات بالإيدز لدى الشباب حصلت خلال فترة المراهقة بسبب ممارسة علاقة جنس غير مأمونة. لم تقتصر أزمة الزواج بسبب الحداثة وما بعدها في المجتمعات الإسلامية عند هذا الحد، بل يسعى مندوبو الحداثة وما بعدها في مجتمعاتنا الإسلامية لمزيد من تعقيد أمور الزواج، وهم يفعلون ذلك اليوم تحت ستار ومظلة المواثيق الدولية، وهم يعملون على مستويين متناقضين: المستوى الأول: التذرع بالمواثيق والاتفاقيات الدولية لمنع الزواج المبكر بحجة حماية الطفولة البريئة وعدم وجود الاستعداد النفسي والصحي خاصة لدى الفتيات. يتذرع البعض بفارق السن في الزواج المبكر، وهذه حالات نادرة لا يصح المنع العام لأجلها وإن كنا نؤيد منع هذه الحالات، ويتذرع البعض بعدم أهلية المراهقة للأمومة، والعجيب أن كثيرا من هؤلاء هو نتاج أم مكافحة تزوجت مبكرة وكذلك أبوه!! ولو قارنا بين تربية أمه وأبيه، وبين تربيته وزوجته الحداثية لما كانت النتيجة في صالحه أبداً!! والمستوى الثاني: هو التذرع بنفس المواثيق الدولية لنشر الثقافة الجنسية بين المراهقين في المناهج المدرسية، وتوفير الثقافة وخدمات الرعاية الصحية الإنجابية للمراهقين، وطبعاً المقصود خارج إطار الزواج، إنهم يعتقدون بحق هؤلاء المراهقين في "اكتشاف أجسادهم" ومساعدتهم على تخطى أي صعوبات تواجههم في ذلك مثل الحمل أو الإصابة بالأمراض الجنسية، وفي نفس الوقت يجب منعهم من الزواج لأنه يتعارض مع طفولتهم!! ومن أزمات الحداثة وما بعدها سعيها لمنع الزواج المبكر، وتغاضيها عن اغتصاب الصغيرات وزنى المحارم، وعدم محاربته وتجفيف منابعه. ومن أزمات الحداثة وما بعدها سعيها لمنع الزواج المبكر والحمل المبكر، والدعوة لحق المراهقة في الحصول على دعم الدولة والمجتمع في رعاية طفلها من الزنى، وتسهيل انخراطها في المجتمع. ومن أزمات الحداثة وما بعدها سعيها لمنع الزواج المبكر، وعجزها عن كبح تفاقم شبح التحرش الجنسي. ويبقي السؤال الموجه لمندوبي الحداثة وما بعدها: إذا كانت الحرية الجنسية من حق المراهقين فلماذا زواجهم ممنوع؟؟ وهل يقبلون بتوجيه الرعاية الصحية والإنجابية للزوجات الصغيرات أم ذلك فقط للزانيات الصغيرات؟؟ هذه الأسئلة هي من باب الكشف عن ازدواجية المعايير وبيان حقيقة أجندة مندوبي الحداثة وما بعدها، إذ أن عدد حالات الزواج المبكر أقل بكثير من حالات الاغتصاب والزنا للصغيرات.
الحداثة وما بعدها وجنايتها على المجتمعات!!
2014/08/01
الرابط المختصر
Image