شكلت الهجرة النبوية تحولاً كبيراً في تاريخ الإسلام، ولما لها من محورية مهمة جعلها عمر الفاروق رضي الله عنه بداية التاريخ الإسلامي.
إذ بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بدأت الدولة الإسلامية تتشكل بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ الإسلام ينتشر بفعالية أكبر ويكسب قبائل ومدناً جديدة ويأخذ دوره العالمي خارج الجزيرة العربية، وشهدت الإنسانية عقب هذه الهجرة أروع حضارة عرفها التاريخ، حضارة صهرت فيها القوميات والعرقيات وسادها الحق والعدل والرحمة، فنثرت الحب والسعادة للضعفاء والمقهورين وهذبت الأقوياء ووجّهتم لنفع الناس من حولهم، ودفعت الجهل بأنوار العلم حتى فاقت الدنيا في معارفها وعلومها.
واليوم ونحن نستذكر الهجرة النبوية ودروسها التي لا تنتهي بل تتجدد بتجدد الأحوال والأحداث والتي نجد لها في دروس السيرة النبوية التي تتعدى حدود الزمان والمكان إشعاعات وومضات تنير الطريق وتهدي الحيارى.
الهجرة تعني الترك والانتقال من حال إلى حال أو من مكان إلى مكان، وهذا لا تنفك عنه الحياة الإنسانية التي تستوجب اختيارات صعبة أحيانا، وذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن المعيار عند الله عز وجل لقبول هذا الترك والتحول والهجرة هو النية الصحيحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل إمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (رواه البخاري)، فالفعل واحد ولكن الاختلاف في مقصود القلب وغايته، وهذا ما نحتاجه اليوم ونحن نسمع ونشاهد سيل التصريحات من الأنظمة والمعارضة بسعيهم نحو الإصلاح والبناء ومحاربة الفساد، نحتاج منهم صدق النية مع الله عز وجل أولاً الذي يعلم السر وأخفى، لأن بصلاح النية يصلح الله عز وجل أحوالهم وأعمالهم، ولننظر إلى نموذج المشير سوار الذهب، حين صدق وتخلى عن المنصب كما وعد، كيف تحول إلى نجم يسير على الأرض.
فكم جنت على أمتنا النوايا السيئة والمزيفة، وكم من هيئات المعارضة ودعاتها حين لوح لهم بمنصب تخلوا عن مبادئهم!! وهل حكم الطغاة هذه المدة إلا وهم يزعمون رفع رايات العدل والحق!! ألا يصيح بشار وعلي صالح بأن مظاهرات الشعب ضدهما اليوم هي العائق عن الإصلاح!!
في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو المعاون المخلص والجندي الوفي، الذي سخّر نفسه وماله وأهله لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى شكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن أمنَّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متَّخَذاً خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإِسلام" (رواه البخاري)، ومن العجيب أن الشيعة لا تعرف لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حقه وفضله، بل تجعل دينَها وعبادتها سبّه وشتمه وبقية الصحابة رضوان الله عليهم، ويتفاخرون بذلك على فضائياتهم ومواقعهم على الإنترنت، وخاصة في يوم عاشوراء الذي يقْدُم علينا بعد مدة يسيرة، وليس العجيب من سب سفهائهم وعوامهم للصديق والصحابة بل العجيب عدم وجود عاقل بينهم ينكر عليهم ويعلمهم فضل الصديق والصحابة، فيا ويحهم ويا خسارتهم بسب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهُم يزعمون تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم!!
والصّديق - الذي تربى في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم- حين ولي الخلافة خطب خطبته المشهورة: "أيها الناس فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، هذه الخطبة التي تصلح أن تكون ميثاقاً يتعاهد الساسة عليه اليوم وهم يؤسسون لمرحلة جديدة من تاريخ العرب.
لم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أَذن له الله سبحانه وتعالى بالهجرة، فأخذ بالأسباب المادية من تجهيز الراحلة والزاد وتوفير الدليل بالطريق، وهذا طبعاً جزء من تخطيط محكم فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من بيت أبي بكر ليلاً ومن باب خلفي، وسلك طريقاً غير مباشر للمدينة، وكان قد خدع قريشاً بنوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكانه.
وهذا يعلمنا أن الإسلام برغم أنه الدين الحق إلاّ أنه لا ينتصر بالمعجزات والكرامات - مع قدرة الله عز وجل على ذلك-، بل لا بد من الأخذ بالأسباب والتخطيط الجيد لتحركاتنا، وأن خسارتنا تنبع من تقصيرنا وعدم القيام بالمهام المطلوبة والتي منها الالتزام بأوامر الله الشرعية والأخذ بالأسباب، وهذا ما يحتاجه التيار الإسلامي اليوم بمختلف أطيافه، يحتاج زيادة التمسك بأوامر الله عز وجل في خاصة نفسه أولاً والأخذ بالأسباب كالوحدة ونبذ العصبية والحزبية، واليقظة لمكر الأعداء في الداخل والخارج، فإنهم اليوم ككفار قريش يدركون أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة تعني انتصاره عليهم في المستقبل القريب.
من دروس الهجرة المباركة أن النبي صلى الله عليه وسلم رغم حرص الكفار على قتله وحربه إلا أنه لم يهاجر حتى رتب أمر إعادة أمانات قريش المالية لأصحابها مع علي رضي الله عنه، وهذا تأصيل لمنهج السياسة الشرعية بأنها شرف في الغاية وطهر في الوسيلة، وهذا هو المنهج الذي يجب أن يحرص عليه التيار الإسلامي في مشاركته السياسية اليوم، فبرغم شراسة الحملة ضده وبرغم قذارة كثير من أعمالها واتهاماتها للتيار الإسلامي، إلا أننا مطالبون شرعاً بالالتزام بمعاييرنا الأخلاقية وعدم الانجرار للمبادئ الميكافيلية الرخيصة التي يلجأ لها خصومنا.
وهذا لا يعني أن نصبح دروايش وسذجاً لا حرمة لنا ولا كرامة، كلاّ فنحن نسير على منهج الفاروق رضي الله عنه "لست بالخب ولا الخب يخدعني" والخب الماكر الخبيث، وتاريخنا الإسلامي مليئ بالحوادث التي تظهر عظمته الأخلاقية وذكاءه في مواجهة أعدائه.
وفي الهجرة النبوية مشهد عظيم لكل مسلم وهو أن المهمة الأساسية للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل مسلم هي الدعوة إلى الله عز وجل لهداية الناس لِما يوصلهم لمجد الدنيا ورفعة الآخرة، ففي طريقه للمدينة لقي النبي صلى الله عليه وسلم بُريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فدعاهم للإسلام فأسلموا.
فرغم أنه مطارد من قريش ومسافر من عدة أيام في الصحراء إلا أنه لا يترك فرصة لهداية إنسان للحق، والهمة للدعوة للإسلام عند عوام المسلمين يقف أمامها المستشرقون متعجيبن لأنهم لا يعرفون أن هذا منهج أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار المسلمون عليه من بعده.
واليوم يجب أن يحذر التيار الإسلامي من طغيان العمل السياسي على الجانب الدعوي في مناشطهم، لأن السياسة في الإسلام هي لخدمة الدعوة وليست الدعوة لخدمة السياسة.
خواطر حول الهجرة النبوية في زمن الربيع العربي
2014/08/01
الرابط المختصر
Image