تكررت كلمة الحق في القرآن الكريم 283 مرة، بمعدل مرة كل صفحتين تقريباً، وهذا يدلل على مركزية الحق ومفهومه في القرآن، وقد تنوعت معاني كلمة الحق في القرآن، جمعها وأبرزها بعض الفضلاء في المعاني التالية: بمعنى الله سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض} (المؤمنون: 71)، وجاءت بمعنى القرآن الكريم: {فقد كذبوا بالحق لمّا جاءهم} (الأنعام: 5)، وجاءت بمعنى الإسلام: {وقل جاء الحق} (الإسراء: 81)، وجاءت بمعنى العدل: {فاحكم بيننا بالحق} (ص: 22)، وجاءت بمعنى التوحيد: {له دعوة الحق} (الرعد: 14)، وجاءت بمعنى الصدق: {قوله الحق} (الأنعام: 37)، وجاءت بمعنى العذاب على الكافرين: {وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا} (غافر: 6)، وجاءت بمعنى الحق الذي يضاد الباطل: {ذلك بأن الله هو الحق} (الحج: 6)، وجاءت بمعنى الدَّين الذي في الذمة: {وليملل الذي عليه الحق} (البقرة: 282)، وجاء بمعنى الأولوية والأحقية: {ونحن أحق بالملك منه} (البقرة: 247)، وجاءت بمعنى الحظ والنصيب: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} (الذاريات: 19)، وجاءت بمعنى الحاجة: {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} (هود: 79)، وجاءت بمعنى البيان: {قالوا الآن جئت بالحق} (البقرة: 71)، وجاء بمعنى الإنجاز والتأكيد: {وعدا عليه حقا} (التوبة: 111). أ.هـ
وتعدد المعاني هذا يؤكد لنا أن الحق له تعلق بكل شيء تقريباً، ومن هنا جاء تميز الإسلام على غيره من الديانات، ومن هنا جاءت سرعة انتشاره بين الأمم في كل زمان ومكان، ومن هنا جاء ثباته برغم المكائد والمصاعب والمؤامرات والضعف.
والحق في الإسلام هو لبّه، فعقيدة التوحيد هي عقيدة الإسلام وهي الحق، فعقيدة التوحيد تقوم على إحقاق الحق بالمساواة بين جميع المخلوقات بالعبودية لرب وإله واحد، وتقوم على إحقاق الحق في إفراده بالطاعة والعبودية بما لا يهين كرامة البشر ولا يضر بهم ولا يحابي عرق على عرق أو طبقة على طبقة أو جنس على جنس، وتقوم على إحقاق الحق في نفي الخرافات والخزعبلات التي روجها شياطين الإنس والجن، من وجود شركاء لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته أو أنه فوض بعض خلقه شؤون الكون يتصرفون فيه، أو أن هذا الكون لا هدف له ولا غاية سوى التعب أو الشر أو تصارع الآلهة.
ولذلك كان الإسلام والتوحيد دين البشرية والأرض منذ خلق الله السماوات والأرض (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11)، ومن يوم خلق آدم عليه السلام واصطفاه برسالته (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (سورة آل عمران: 33].
وكما كان الإسلام هو الحق في عقيدته فهو الحق في عباداته وشرائعه، وهذا أمر متفق عليه بين جميع العقلاء مهما كان دينهم، فليس في الإسلام عبادة لا معنى لها ولا حكمة وفائدة لروح الناس أو أبدانهم وصحتهم، علمها من علمها وجهلها من جهلها. والإسلام يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن سفاسفها.
وقد ثبت للجميع أن التحلي بالأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية والأحكام القرآنية هو ما حافظ على الأمة الإسلامية عبر التاريخ، وإلا لماذا لم تنتشر حالات الانتحار والكآبة والأمراض النفسية بمعدلاتها العالمية برغم الفقر والاحتلال والتشريد؟ ولماذا لا تنتشر الأمراض والآفات العصرية بسبب الانحلال في ديار الإسلام كما يحدث في مناطق غير المسلمين من الأغنياء في الغرب أو الفقراء في أفريقيا وآسيا؟ ولماذا بقيت الأمة موحدة في مشاعرها وأحلامها وتطلعاتها، فتجد الضعفاء والمساكين من المسلمين يتبرعون ولو بالقليل لإخوانهم في أماكن أخرى عندما تصيبهم فاقة أو جائحة؟
إن الإجابة عن كل ذلك هي لأن الإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه هو الحق، ولأن المسلمين يتمسكون بالحق - ولو مع نوع قصور – فتكون العاقبة إلى خير نوعاً ما.
والتمسك بالحق وهو الإسلام على وجهه الصحيح بالتزام القرآن والسنة هو ما جعل الصحابة يسيرون على الحق في فتوحاتهم وسياساتهم، فهم بعد أن آمنوا بالحق، تواصوا به كما أمرهم ربهم، فانطلقوا في الأرض يبلغون دعوة الحق، ومن قبِلها من الشعوب أقاموا لهم دولة الحق.
ولذلك كانت الفتوحات الإسلامية فتوحات حقة وعادلة لم تبطش بالمخالفين إلا إذا أصروا على ما هم فيه من باطل، بعدم الانقياد لحكم الإسلام أو دعوته، حكم الإسلام الذي حين فتح البلاد حرر أهلها من العبودية، على خلاف السياسة الدولية العالمية آنذاك، حكم الإسلام الذي رفع المظالم عن الناس بدلاً من أن يزيدها تعويضاً عن خسائر الحرب (تذكر نفط العراق المنهوب من أمريكا وإيران، وخيرات الشيشان المسلوبة وغيرها من جمهوريات روسيا)، حكم الإسلام الذي سمح للناس بحرية الدين ورفع تسلط بعضهم على بعض، حكم الإسلام الذي شملهم بعدله فأصلح لهم دنياهم بعمارة المدن وبناء الجسور والحصون وشق الترع والأنهار فدرت الغلات، واستغنى الفقراء منهم بغض النظر عن إسلامه، حكم الإسلام الذي لم يبنِ عاصمة في المدينة أو مكة من خيرات الشعوب المفتوحة (تذكر نهب ثروات أفريقيا وآسيا على يد دول الاستعمار ورسل التنوير)، حكم الإسلام الذي ساوى الشعوب الجديدة بنفسه، فسرعان ما أصبح هؤلاء المسلمون الجدد هم الفقهاء والعلماء والمجاهدون والأمراء بل وحتى السلاطين والخلفاء.
هذا هو الإسلام وهذا هو الحق الذي جاء به للناس ليحرر به أرواحهم وأبدانهم ويسعدهم ويفرحهم بما لديه من الحق.
ولم يقتصر الحق على هذا فحسب، بل إن سياسة الإسلام وموقفه من أي قضية تنبنى على الحق الذي هو العدل، وهنا تتمايز حضارة الإسلام عن الحضارة المادية المعاصرة، والتي تقوم على المصلحة المادية بصرف النظر عن الحق، وهذه النقطة هي التي تفسر بجلاء تناقضات الحضارة العلمانية المعاصرة بكافة تلاوينها.
فبرغم الدعايات البراقة والشعارات الرنانة فإن المصلحة هي البوصلة في تلك الحضارة، وإلا فلماذا لا تزال إسرائيل تلقى التدليل والمحاباة على حساب فلسطين؟ هل لنقص في دلائل الحق والعدل؟
ولماذا لا تزال الدول العظمى تعطل مسيرة التنمية والنهضة في كثير من البلاد الضعيفة، أليس حتى تبقى هي المستفيدة من ثرواتها الطبيعية بدلاً من أصحابها؟
ولماذا لا تقوم السياسات الدولية على مكافحة أصل الكوارث والمشاكل البيئية والأخلاقية والسياسية، أليس لأن هذا يضر بمصالح (الألغارشية) المتحكمة في مقدرات العالم، يكفي لذلك مثلا شركات التبغ وعصابات المخدرات، التي يحميها عِلية القوم لأنهم هم المالكون لها وتدر عليهم المليارات من الأموال. وبالمقابل ها هي روسيا تواصل قتل الشعب السوري بحجة عدم جواز تدخل الآخرين بالشأن السوري، إلا روسيا وإيران طبعاً.
بينما السياسة الإسلامية تقوم على التمسك بالحق ونصرة المظلوم ولو كان خصمنا وعدونا، وأصبح الحق والعدل هو الأصل في سياسة الإسلام، منذ فتْح مكة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء"، ومروراً بعدل الصديق وعمر وعثمان وعلي، ومن بعدهم معاوية وبنيه، حتى نصل لسيرة صلاح الدين ذلك البطل الذى احترمه حتى أعدؤه لتمسكه بالحق، ومن بعده محمد الفاتح وعشرات ومئات القادة والساسة الذين تمسكوا بالحق والعدل فقامت دولة الإسلام منيعة مئات السنين.
واليوم فإن تمسك الأمة أفراداً وجماعات بالحق في عقائدها وعباداتها ومعاملاتها وأخلاقها وسياستها، هو السبيل لعزها ورفعتها مرة أخرى، وقد بدأت بوادر ذلك تلوح بالآفاق.
ولذلك على الجميع وخاصة الجماعات والحركات الإسلامية أن تحسن التمسك بالحق، وتضع خطة واضحة للتقدم درجات عن الوضع القائم، ويجب أن تبرهن على مصداقيتها وصلاحيتها لقيادة الأمة في وجه التيارات الأخرى، وإلا كان الحق فيهم (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (محمد: 38).
واختم بهذ القصة العجيبة التي تدل على مكارم السياسة الإسلامية وقيامها على الحق، روى الحافظ ابن حجر في الإصابة أن ابنين لصفوان بن أمية بن خلف – وهما عبد الله بن صفوان وعبد الرحمن الأكبر ابن صفوان – وفداً على أمير المؤمنين معاوية في دمشق، وكان معاوية خال عبد الرحمن الأكبر، أما أخوه عبد الله بن صفوان فكان من أم أخرى. فقدم معاوية عبد الله مع بعده عنه على عبد الرحمن مع أنه ابن أخته. فلما علمت أم حبيبة بنت أبي سفيان – أخت معاوية وخالة عبد الرحمن – بأن أمير المؤمنين قدم عبد الله على ابن أختها، عاتبته في ذلك، فأراد أن يقيم لها الحجة على صواب ما فعل، فأذن لعبد الرحمن، فدخل عليه فقال له معاوية: سل حوائجك؟
فذكر ديناً، وعيالاً. فأعطاه وقضى حوائجه.
ثم أذن لعبد الله وقال له: سل حوائجك! فقال: تخرج العطاء وتقرض للمنقطعين، وترف الأرامل القواعد، وتتفقد أحلافك الأحابيش. فقال معاوية: أفعل كل ما قلت. فهلم حوائجك!
قال عبد الله بن صفوان: وأي حاجة لي غير هذا؟ أنا أغنى قريش... ثم انصرف.
فقا معاوية لأخته: كيف رأيت؟
علق على القصة العلامة محب الدين الخطيب في كتابه الماتع (مع الرعيل الأول): إن خالاً يؤثر ابن ضرة أخته على ابن أخته لأنه أنفع للأمة، وأرفع نفساً وأعف عن بهرج العاجلة، خليق بأن يعد في الصالحين من ولاة أمر المسلمين، وأن يعرف الشيء له هذه الفضيلة وأمثالها، لتكون هذه الأخلاق محببة إلى الذين يحتمل أن يلوا شيئاً من أمور الناس في المستقبل، أو – على الأقل – ليعملوا بهذه الأخلاق في خاصة شؤونهم، وفي مختلف تصرفاتهم، فيعم الخير أبناء الجيل، ويكون التقدم فيه للأفضل لا للأقرب....".
التمسك بالحق سبيل الإسلام والمسلمين
2014/08/01
الرابط المختصر
Image