(1) عملية الإصلاح في تاريخنا المعاصر تمتد إلى القرن الثامن عشر كما يقول المستشار طارق البشري في كتابه "منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي"، حيث شهد العالم الإسلامي حركتين إصلاحيتين هما حركة التجديد العقدية والفقهية، وحركة الإصلاح المؤسسي. حركة التجديد العقدي والفقهي استفتحت بدعوة ابن عبد الوهاب ( 1703-1791) في نجد، ومحمد بن نوح الفلاتي في المدينة (1752-1803)، والدهلوي في الهند (1702-1762)، وفي اليمن الشوكاني (1758-1843)، والألوسي في العراق (1803-1854)، وفي المغرب السنوسي (1878-1859)، والمهدي في السودان (1843-1855). وهذه الدعوات تشترك في الدعوة للتجديد الإسلامي من خلال فتح باب الإجتهاد ونبذ التقليد والتعصب المذهبي الذي جمد النهضة العلمية الإسلامية وعرقل مسيرة التقدم والرقي، وأنشأ بيئة عشعشت فيها الخرافة والبدعة والجهالة، مما انعكس سلباً على الحالة الدينية والعلمية والسياسية والعسكرية فأصيبت بالضعف والتراجع حتى أصبحت مطمعاً للأعداء ووصفت بدولة الرجل المريض. وقد نشأت هذه الحركات بعيدة عن قلب العالم الإسلامي – كما يشير البشري – بسبب رسوخ المؤسسات الدينية العصية على التغيير والتجديد فيها. أما حركة الإصلاح المؤسسي فقد نشأت في قلب العالم الإسلامي على يد القادة السياسيين والعسكريين مثل السلطان سليم الثالث والسلطان محمود الثاني (108-1840) في أسطنبول، ومحمد علي (1805-1848) في القاهرة، وذلك بسبب ضغوطات غزو أوروبا لأرض المسلمين. ولذلك كان إصلاح الجيش هو بداية الإصلاحات عند هذه الحركة، بإدخال أسلحة وتنظيمات جديدة مستقاة من الخصم الأوروبي. ويلاحظ البشري أن هاتين الحركتين الإصلاحيتين بدلاً من أن تتكامل جهودهما تصادمتا !! فالساسة والعسكر في اسطنبول والقاهرة لم يستوعبوا أبعاد حركات الإصلاح العقدي والفقهي فحاربوها من جهة، ومن جهة أخري فإن نتائج الإصلاح المؤسسي كانت كارثية على الأمة، فبدلاً من إصلاح الأوضاع تم القضاء على الأمة، وذلك لقيام الإصلاح المؤسسي على يد شخصيات عسكرية وسياسية تتسم طبيعتها وخلفيتها بالسرعة والعملية ولا تنشغل كثيراً بالجوانب الفكرية، فإنهم لتفادى بطء إصلاح نظم التعليم التقليدية والصراع معها، لجؤا إلى إقامة مؤسسات تعليمية موازية أو بديلة من أجل السرعة في إنجاز الإصلاحات في الجيش، مما تولد عنه وجود إزدواجية وتباين في الخلفيات العقلية للقادة وفي السياسات العملية، سرعان ما صدعت الدولة والمجتمع ! وتسرب من شقوقها النفوذ الأوروبي. وبدلاً من أن تكون هذه المؤسسات البديلة عامل إصلاح سريع أصبحت أداة نفوذ وتدخل أجنبي في جسد الدولة والمجتمع، والتي عملت على تهديد هوية المجتمع، كما حصل في تغيير مناهج المدارس والكليات التي أنشئت لإصلاح الجيش والبعثات التي أرسلت من أجل ذلك للخارج فتحولت من العلوم العلمية والتطبيقية إلى العلوم النظرية كالآداب والقانون، حتى وصل الأمر إلى إلغاء الخلافة وعلمنة تركيا على يد أتاتورك. ولعل شيئاً من هذا تكرر في الواقع الأردني، فإن الساسة الذين قادوا المرحلة الأخيرة قاموا بالتوسع في إنشاء المؤسسات الرديفة والموازية لمؤسسات الدولة بحجة التعجيل بالإصلاح والتنمية !! لكن النتيجة كانت مزيداً من الفساد والهدر المالي على شكل رواتب ومكافئات خيالية ومحسوبية في التعيين، والسير بالأردن بعيداً عن هويته وواقعه !! (2) من تجارب الإصلاح الماضية خطأ لا يزال موجوداً لليوم في أوساط القوى المناط بها الإصلاح وهي انتشار خطاب الحقوق بدلاً من خطاب الواجبات كما يوضح مالك بن نبي بقوله: " لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة ونسينا الواجبات. ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغباتنا، بل فيما يسودنا من عادات، وما يراودنا من أفكار وفي تصوراتنا الاجتماعية بما فيها من قيم الجمال والأخلاق، وما فيها من نقائص أيضاً تعترى كل شعب نائم، وبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة أصبحت سوقاً للانتخابات". وهذا يتجلى في الفارق الكبير بين مطالب وواقع المنادين بالإصلاح (رسميين، معارضين أفراد وجماعات)، فهل المسئولين الذين صدعوا رؤوسنا في المؤتمرات والندوات عن الإصلاح إصلاحيين في مؤسساتهم ؟ وهل المعارضيين الذين يملؤون الفضائيات مطالبة بالإصلاح والعدالة والحرية والشفافية هم كذلك في أحزابهم وجماعاتهم ؟؟ لابد لنا من القيام بالواجبات المنوطة بنا لنستحق الحقوق المسلوبة، لأن توفر الإخلاص والصدق في النية وتوفر الصحة والسلامة في العمل هو شرط النجاح والتوفيق في الدنيا والأخرة. (3) من المتفق عليه بين الباحثين أن أفراد الطبقة الوسطى والدنيا هم وقود الإصلاح، لأنه " لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم واستئثارهم بالحياة والوظائف بمشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك" كما يقول محمد عبده. ويؤكد هذا أن أتباع الأنبياء دوماً هم الضعفاء كما في حديث أبو سفيان مع هرقل، لأن أصل دعوة الأنبياء هو إصلاح الواقع الفاسد، فمن الطبيعي أن يصطف الضعفاء والمتضررون مع الأنبياء ويصطف الطغاة والفراعنة مقابلهم. ومن كيد الطغاة والفراعنة أنهم ينجحون أحياناً في كسب ولاء بعض المتكسبين بدينهم لشرعنة طغيانهم وفرعنتهم، كما قال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ولكن من رحمة الله بالأمة المسلمة أنه " يبعث لها على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها " كما بشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد أن قامت حركة التجديد العقدي والفقهي بإصلاحات كبيرة في الواقع الديني والتعليمي والثقافي، إلا أنه تم الإلتفاف على بعض هذه الإنجازات وتفريغها من جوهرها لتبرير الواقع المشوه بتبرير ديني يصدر من خطين متوازيين، خط لا يزال يتنبى خطاب الإصلاح والتجديد الديني في مسائل العقيدة والتوحيد والفقه، لكنه مال لترسيخ الواقع القائم السيئ خوفاً من الأسوء، نتيجة بعض التجارب الكارثية كالفواجع التي حصلت بسبب الإنقلابات والثورات الشيوعية في الخمسينيات وما بعدها، وبعض أعمال العنف التي قامت بها فصائل إسلامية. وخط الصوفية والطرقية المنحرفة، والذي عاد من جديد بثوب عصري لكنه لا يزال يحمل أفكار الخرافة والبدع والعقائد السلبية، كالغلو في الكرامات وتقديس الأموات وعقائد الحلول والإتحاد ووحدة الوجود، ولذلك تجد سنداً قوياًً من الأنظمة القمعية باسم رعاية الدين والإسلام، وهو يجد رعاية من المؤسسات المدنية الغربية فتقام الحضرات الصوفية المشتركة بين المسلمين والنصارى واليهود رجالاً ونساءاً محتشمات وغير محتشمات، تحت شعارات وحدة الإنسانية!! وهم يحاولون بهذا حصر الإسلام بين نموذجين فاسدين إما إسلام العنف المنفلت بالتفجير والتكفير مثل تنظيم القاعدة وإما الإسلام المدجن بدرجاته المتنوعة وألوانه المتعددة، ولكن الذي سيثبت في الأرض وينفع الناس هو الإسلام الحقيقي والذي يقوم بحمله المخلصون والمجددون بعلم وحكمة وقوة. (4) القذافي قام بانقلاب على الملك إدريس السنوسي بعد أن خرجت الجماهير تصيح " إبليس ولا إدريس "، فجائهم فعلاً باسم الثورة إبليس الأبالسة !! ولذلك تكرر في التاريخ المعاصر أن تختطف بعض الثورات لأجندات ضيقة رغماً عن الشعوب وعن توجهاتها، والغريب أن القادة المخلوعين والقادة الجدد يشتركون معاً في تبرير مصادرتهم لرغبات الشعوب بأنها جاهلة ولم تنضج ولا تعرف مصلحتها ولا تستحق الحرية والكرامة والديمقراطية !! فهل ما نشاهده اليوم من الهجمة الهوجاء للقوى العلمانية واليسارية في مصر على الإسلاميين - الذين يشكلون الثقل الأكبر في الساحة المصرية وغيرها- والجماهير المؤيدة لهم، هي مقدمة لخطف ثورة الجماهير المصرية، هذه الجماهير التي كان العلمانيين واليساريين قبل أسابيع يتغنون بها وبثورتها في وجه الظلم حتى اسقطت نظام مبارك، وكانوا يتغنون بيوم الجمعة وبالمساجد التي تنطلق منها الجماهير، لكنهم اليوم يشتمون ويحقرون هذه الجماهير لأنها انحازت لهويتها ودينها، بدعوى أن الجماهير جاهلة ومغرر بها ؟؟
من تاريخ الإصلاح المعاصر
2014/08/01
الرابط المختصر
Image