الداعشية حالة دائمة ومتجددة طالما بقيت مقدماتها وبيئتها ناشطة وحية وقائمة، فضلا عن أن النبوءة النبوية تخبرنا عن استمرار ظهور العنف والتطرف حتى نهاية التاريخ البشري على الأرض، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج قرن قطع" قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال" رواه ابن ماجة، وهو حديث حسن؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بشرنا أن فتنتهم لا تدوم، بل تقطع كلما ظهرت. وداعش وأخواتها السابقات واللاحقات برزت نتيجة ثلاث عوامل ساعدت على ظهورها وتقويتها، وهي: 1- الواقع السيء والبائس والذي تعيشه الأمة على تفاوت وتباين في مستواه ومجاله ومقداره، فبرغم تحقق مرحلة الاستقلال عن الاستعمار الذي يتحمل مسئولية كبيرة جداً عن الأوضاع السيئة، إلا أن عهود الاستقلال لم تُحدث الفارق المأمول والمنشود في الوضع الاقتصادي ولا التنموي ولا السياسي والذي كانت تحلم به الشعوب وتعدها به القيادات، فلا تزال مجتمعاتنا تئن تحت وطأة البطالة والفقر وقلة الخدمات، وصورية الإصلاحات السياسية والمشاركة الشعبية، وعدم واقعية الشعارات البراقة كالديمقراطية والشفافية والتشاركية، وعلى صعيد القيم والأخلاق فهي في تراجع مدهش، فضلاً عن تبني بعض الأنظمة سياسات لتجفيف التدين والإسلام، والتعليم بعد أن كان متميزا أصبح اليوم يخرج أفواجا من الأميين!! فضلا عن عودة هيمنة الاحتلال بأشكال متنوعة، وبقاء قضية فلسطين في تراجع مستمر، وبقاء المسلمين يتعرضون للاضطهاد والإرهاب دون حماية واهتمام كسائر الأقليات والعرقيات. أفرز هذا الواقع كثيرا من الشباب الناقم والغاضب على واقعه ومجتمعه ومستقبله، وهذا الغضب يتفجر في أشكال وصور كثيرة منها: العنف في المدارس والجامعات والملاعب، العنف بين الجيران، مجموعات السرقة والمخدرات، التنظيمات الثورية اليسارية قبل ثلاثة عقود، المجموعات الشبابية الثورية والحراكية، الجماعات الإسلامية المتطرفة. 2- إن ما يفجر غضب الشباب على الواقع البائس من خلال التنظيمات الإسلامية المتطرفة هو الجهل وقلة العلم الشرعي والحماس وقلة الخبرة في مواجهة الواقع السيء على كل المستويات والذي ترعاه وتصنعه كثير من الأنظمة الحاكمة المحلية والإقليمية والدولية. الجهل والحماس هو الأمر الثابت والمتكرر في كل جماعات العنف الإسلامية منذ ظهور جماعة شكري مصطفى (جماعة المسلمين) والتي سميت إعلامياً وأمنيا جماعة التكفير والهجرة سنة 1965، فإن الجهل وقلة العلم الشرعي ميّز شكري مصطفى من جهة، واعتماده على أفكار سيد قطب من جهة أخرى والتي صبغتها العاطفة والحماس وردة الفعل على سياسات جمال عبد الناصر المعادية للإسلام والاستبدادية والمدمرة لاقتصاد مصر. ويتبين دور العلم الشرعي في الوقاية من التطرف والعنف من خلال تراجع شيخ شكري مصطفى عن هذا الغلو وهو في السجن بسبب دراسته الأزهرية وهو الشيخ علي إسماعيل، شقيق الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أحد الستة الذين تم إعدامهم مع سيد قطب، فبعد مناقشات في السجن رجع عن أفكاره وأعلن براءته منها، لكن شكري خريج كلية الزراعة، والبالغ من العمر 23 عاما، أصر على المضي لنهاية الشوط، وقد انطبق عليه الوصف النبوي للغلاة "حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام". ومن أمثلة أثر الجهل والحماس عند الشباب في نشأة التطرف والعنف، ما حكاه أبو محمد المقدسي عن نفسه في سلسلة حوارات في اليوتيوب بعنوان "ولكن كونوا ربانيين"، حيث ذكر فيها سيرته وتاريخ فكره، ويهمنا هنا – وقد نعود لها بتوسع في وقت لاحق- أنه نشأ مع جماعة الشيخ محمد سرور في الكويت وذلك في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، وأيضا تعرف على أحد تلاميذ سيد قطب المقربين وهو الشيخ سيد عيد، ومن هنا تشكلت بدايات المقدسي المنهجية بحيث غلبت عليها أفكار سيد قطب المكفرة للأنظمة الحاكمة من هذين الرافدين، ثم انضم لها بسبب احتكاكه ببعض الشباب الكويتي المتأثر بجماعة جهيمان، فترك جماعة سرور واقترب من شباب جهيمان ولذلك ترك الدراسة في جامعة الموصل، وذهب للمدينة المنورة لتقديم أوراقه للجامعة الإسلامية، لكنه لم يُقبل فيها، وفي هذه المدة تردد على دروس بعض العلماء، لكنه وجد نسخة قديمة –كما يقول- من كتاب الدرر السنية، وعندها كون المقدسي مزيجه الخاص والمكون من أفكار سيد قطب مع أفكار جهيمان مع قراءة ذاتية لكتاب الدرر السنية وتنزيلها على الواقع، فتوصل لمنتج جديد وهو تكفير الدول القائمة والجيش والشرطة والبرلمان مما أحدث قطيعة بينه وبين جماعة جهيمان التي كانت تحرم دخول الجيش لأنه يجبر أفراده على حلق اللحية فقط! يقول المقدسي: "القضايا التي خالفنا فيها كثير من الناس التي هي تكفير الجيش والشرطة، الأنظمة، تكفير البرلمانات، القول بأن الديمقراطية كفر، المسائل جهرنا بها وكتبنا بها وصنفنا بها في مرحلة مكوثي في المدينة المنورة، لم يات هذا تأثراً بمشايخ الجزيرة، لا كان ذلك تأثرا بكتب علماء أئمة الدعوة النجدية وربط هذه الكتب بالواقع ... هذا واقعنا ما هو إلا شيء بسيط يحتاج بعض أدوات العلم وتحتاج جرأة لسحب هذه الفتوى على واقعنا" (القسم الثاني دقيقة 21)، استنتج المقدسي هذه الآراء الخطيرة ولم يبلغ آنذاك 25 سنة من عمره!! وما فعله المقدسي هو مصداق القاعدة العلمية القديمة في منهج أهل البدع في التفكير، والذي يقوم على الاعتقاد قبل الاستدلال، فالمقدسي آمن بكفر الأنظمة والحكومات والجيوش بناء على أفكار سيد قطب التي نشأ عليها، وحين صادف نصوصا سلفية نجدية تشابه قناعاته المسبقة من بعض الوجوه، قام بتعديل وتطويع هذه النصوص لتوافق قناعته السابقة، وهو نفس المنزلق المنهجي الذي وقعت فيه جماعتا الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، حين طوعتا قسراً كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لقناعاتهما المسبقة بتكفير قطاعات عديدة في المجتمع والعداء لها، ثم لما قاموا بالمراجعات الفكرية استندوا لشيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في اعتدالهم وتركهم للتكفير والعنف، وهو الفارق المنهجي بينهم وبين جماعة الدعوة السلفية في الإسكندرية / حزب النور والذين فهموا حقيقة كلام ابن تيمية على وجهه السليم من البداية ووفروا على أنفسهم والمجتمع المصري تجربة مرة استمرت عقدين تقريباً. ومعلوم أن جماعات العنف لم تعتمد على التراث النجدي إلا بعد سنوات من دعوة المقدسي وتنظيره بها، وقبل ذلك كان اعتمادهم على أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وتراث ابن تيمية وفقهاء المالكية بقراءة مشوشة، ويتضح لنا من كلام المقدسي أنه وصل لهذه الاستنتاجات بذاته وليس عبر العلماء في نجد، ويرى الشيخ سعد الشثري أن جهل المقدسي بعلم الأصول تسبب بتنزيله كلام علماء نجد على غير محله، كما أن جهل المقدسي بخطأ كلام علماء نجد أصلا في بعض المسائل جعله يكرر أخطائهم، وبهذا يتضح أن عزو فكر القاعدة وداعش للتراث النجدي بعيد عن الصحة. وبسبب شيوع الجهل والحماس والجرأة وفقدان أدوات العلم في أوساط تيار العنف والتطرف تكرر وقوع الكارثة مرة ثانية وثالثة وظهور التطرف والغلو وتضخمه، ويتبدى هذا بوضوح مع أبي مصعب الزرقاوى، فهو رغم أنه لم يتدين إلا متأخراً، إلا أنه سرعان ما صار زعيماً في تيار العنف والتطرف وذلك ليس بسبب كفاءته الشرعية كما يفترض، بل بسبب شخصيته القيادية القوية، وهو الأمر الذي جعله يتقدم في القيادة في السجن على شيخ التيار ومؤسسه المقدسي، ولم يقف الأمر لهذا الحد، بل قام أبو قتادة الفلسطيني بتزكية الزرقاوي عند تنظيم القاعدة كشخصية محورية وقيادية قادمة في بلاد الشام، سافر الزرقاوي عقب العفو الملكي عنه عام 1999 ومر بأفغانستان وهناك قابله سيف العدل أحد القادة البارزين في تنظيم القاعدة، وقد كتب عقب اغتيال الزرقاوي عن علاقته به ولقائهما الأول فقال: "وجدت أنني اقف أمام رجل يتطابق معي في كثير من الصفات الشخصية، رجل صلب البنية لا يتقن فن الكلام كثيراً، يعبر عما يجول في نفسه وفكره بكلام مقتضب، لا يتنازل عن أي شيء مقتنع فيه، لا يهادن ولا يساوم، لديه هدف واضح يسعى لتحقيقه، وهو إعادة الإسلام إلى واقع الحياة البشرية، ليست لديه تفاصيل كثيرة عن الطريقة والأسلوب والوسائل لذلك، سوى تحقيق التوحيد وفهم العقيدة السليمة وجهاد أعداء الأمة، تجربته الشخصية في الحياة والعمل ليست واسعة، لكن طموحه كبير، وأهدافه واضحة"، وواضح هنا غياب صفة العلم والفقه والمعرفة في الشريعة والواقع عن الزرقاوي، فكيف يجوز لمثله تصدر قيادة عمل إسلامي، بل احتكار العمل الإسلامي وإقصاء الآخرين ممّن هم أكثر علماً وفقهاً وأقدم سابقة في الالتزام والجهاد كما حدث في العراق؟ ولا تزال لليوم مشكلة داعش وتنظيم القاعدة وأمثالهما تنبع من الجهل الشرعي والحماس والعاطفة، وتأتي الدعوات العلمانية التي تهاجم كل التيار الإسلامي فتندد بالمحاضن الدعوية في المساجد والمدارس وتتهمها بأنها سبب الإرهاب، وأن الحل بتجفيف الدعوة الإسلامية وعلمنة المناهج الدراسية، لتقدم أكبر الخدمات لجماعات العنف بنشر الجهل الشرعي في المساجد والمدارس، مما يفتح الباب للجهل المتطرف ليسود مع غياب البديل الإسلامي الصحيح. لهؤلاء أقول إنه لولا جهود العلماء والدعاة والخطباء والأئمة في نشر الدعوة الإسلامية والعلم الشرعي الصحيح والمنضبط بين غالبية المتدينين في بلادنا لكانت أفكار داعش بل سكاكينهم قد عمت وطمت، ولذلك يجب عدم تضخيم مشكلة داعش لضرب العمل الإسلامي بأكمله لخدمة الأجندة العلمانية، فهذا هو ما ينمي الفكر الداعشي ويفتح الباب له على مصراعيه. 3- وبعد أن يقوم الجهل والحماس بقيادة الغاضبين من الواقع السيء، يأتي الضلع الثالث وهو اختراق خصوم الإسلام لهذه الشخصيات والمجموعات وتوجيهها لتفجير المجتمع من داخله وباسم الدين هذه المرة، سواء عبر الشخصيات العلمية كالمستشرقين والباحثين، أو عبر الشخصيات السياسية، أو عبر أجهزة الأمن من الداخل والخارج. وقد تكرر هذا كثيرا في تجارب جماعات العنف، ففي تجربة شكري مصطفى والتي دوّنها عبدالرحمن أبو الخير في كتابه " ذكرياتي مع جماعة المسلمين" كان هناك اتفاق بين شكري مصطفى والأمن المصري على قتل الشيخ الذهبي الذي كان على خلاف مع السلطة الحاكمة في القاهرة، وتكرر هذا في أحداث حماة الأولى سنة 1982 باختراق أبو عبد الله الجسري لجماعة الطليعة المقاتلة ونجاحه بتسليم قيادة الجماعة و70 عنصرا متميزا منها لنظام حافظ الأسد، وفي الجزائر تم اختراق الجماعة الإسلامية المسلحة بحيث تم تصفية كثير من قادتها الأصليين واستبدالهم بقيادات تابعة للأمن الجزائري والتي حرفت مسار حركتهم نحو الصراعات مع الفصائل الأخرى وترويع الآمنين، كما يحدث اليوم من داعش في سوريا والعراق. وأيضا ما قام به أبو القعقاع محمود قولاغاصي في حلب بسوريا عقب الاحتلال الأمريكي للعراق من جذب الشباب المتحمس للجهاد ضد الأمريكان بالعراق، وكان عميلا للمخابرات السورية، ولما كشفت أوراقه تمت تصفيته، ولكن عن طريقه تم تجنيد كثير من الشباب في القاعدة وأخواتها كعملاء للمخابرات السورية، وهذا ما يفسر ارتباط بعض قادة داعش بمصالح نظام الأسد وليس الثورة السورية. وطالما بقيت هذه الأمور الثلاثة: أوضاع بائسة، جهل وحماس وتهور، اختراق واستغلال، ستظهر لنا كل مدة داعش جديدة في مكان وزمان جديدين، والضحية دوما الإسلام والمسلمون.
حتى نتجنب داعش 2 و3
2014/09/01
الرابط المختصر
Image