منذ فترة وأنا أود الحديث عن قصة البشرية كما يعرضها القرآن الكريم، وذلك أن هذا الموضوع من القضايا الجوهرية التي شغلت وجدان الناس على مر العصور، ولأننا اليوم في عصر القرية الكونية، وعصر الصورة ؛ ولأننا نحن معاشر المسلمين اليوم نعيش مرحلة الإستلاب والهزيمة، فقد أصبح هناك العديد من شبابنا وشاباتنا يتلقي معلوماته وأفكاره من مصادر غير إسلامية حتى في بعض المسائل التي تتعلق بالعقيدة الإسلامية. ومن أحدث الأمثلة على المصادر غير الشرعية لكثير من المسائل العقدية لدى أجيالنا الحاضرة، ما تقدمه اليوم بعض الروايات والأفلام التي تتعرض لقضايا فكرية وفلسفية، مثل روايات دان براون " ملائكة وشياطين" و" شيفرة ديفنشي" التي حولت إلى أفلام سينمائية، أو رواية " عزازيل " الفائزة بجائزة البوكر ليوسف زيدان، وبعيداً عن ما احتوته من مناقشات للعقيدة المسيحية حول تأثرها بالديانات الوثنية السابقة، أو موقفها السلبي من المرأة واحتقارها، فإن ما أود التركيز عليه هو ما ورد في تضاعيف هذه الروايات والأفلام من إشارات إلى بداية الخلق والإنسان. وقبل الدخول في صلب الموضوع لابد من التنبيه على مسألة لطالما تحدث فيها الكتاب والمفكرون، وهي أن مشاكل المسيحية والكنيسة أو غيرها من الديانات مع العلم والواقع لأسباب شتى منها التحريف ومنها الوضع البشري، لا ينبغى سحبها وإسقاطها على الإسلام، فليس في القرآن أو السنة الصحيحة أو الشريعة شيء يصادم ويتعارض مع العلم الثابت والواقع اليقينى،ولكن بسبب ضعف الحالة الإسلامية أصبح من السهل تقبل كثير من أجيالنا ذات الخواء المعرفي لهذه الأغلوطة. إن من القضايا التي تحتاج إلى توضيح كبير اليوم هو علاقة الحقيقة بالأسطورة، فالسائد لدى العلمانيين اليوم هو أولية الجهل والخرافة والشرك على العلم والمعرفة والتوحيد، وهذا بسبب عقيدتهم بالأصل الحيوانى للإنسان بحسب نظرية دارون وما شاكلها من النظريات. لكن الموقف الإسلامي النابع من الوحي الإلهي يرفض هذا التصور الحيواني للإنسان، ويقدم التصور الحقيقي والراقي لخلق البشر الذي يرتكز على الأسس الثلاثة التالية: فالإنسان خلق مكرماً بيدي الخالق عز وجل " لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " (البقرة 75 ). وأنه خلق وأسكن في الجنة " كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ " ( الأعراف 27 ). وأن الإنسان الأول كان نبياً مؤمناً عالماً مسلماً "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ "(طه115)، " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا " ( البقرة 31 )، "إن الدين عند الله الإسلام " (آل عمران 19). وهذه الأسس الثلاث توضح كثير من المشكلات التي لا يزال غير المؤمنين يتخبطون بها، فمن المتفق عليه بين علماء التاريخ أنه لم توجد أمة دون دين، وكما أنهم يقرون بوجود كثير من التشابه بين المعتقدات القديمة والديانات السماوية الأخيرة، لكنهم لتفسير هذه الحقائق جعلوا الأمور تسير على رؤوسها بدل أقدامها، وهذه بعض الأمثلة: - فمثلا فسروا وجود الأديان منذ القدم بأنه بسبب الجهل والخوف عبد الناس الظواهر الطبيعية ومن ثم الأصنام، بينما نجد أن القرآن يقرر أن التوحيد هو الأصل في الناس لأن أبوهم آدم عليه السلام كان مؤمناً بل كما في الحديث الصحيح " نبي مكلم " (رواه أحمد). ففي المعتقد الإسلامي أن التوحيد والإيمان هو الأصل في البشرية ثم طرأ الشرك عليها، قال تعالى: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ " (البقرة 213 ). قال ابن عباس في تفسيرها:" كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين". وروى البخاري في باب " ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق " عن ابن عباس قال:" هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنوسي العلم عُبدت"، فهذا هو بداية ظهور الشرك وعبادة الأصنام في تاريخ البشرية، ولذلك كان الله عز وجل يرسل الأنبياء والرسل للأمم كي يدلوهم طريق السعادة في الدنيا والأخرة بتوحيد الله عز وجل، قال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت" ( النحل36 ). فوحدة الأصل البشري أنها من آدم عليه السلام ووحدة الدين وأنه الإسلام، تفسر لنا وجود التشابه عبر التاريخ بين كل السلالات البشرية جسدياً ، وتفسر لنا سبب تكرار وتشابه كثير من العقائد عند الأقوام المختلفي الديانات اليوم لأنها بقايا دين الإسلام الذي كانوا يشتركون فيه، ولكن عوامل الجهل والتباعد والنسيان والاختراع عملت على تشويه نقائه وتكامله. وهذا يفسر للباحثين عن الحقيقة لماذا تحتفظ الحضارات القديمة بقصص العديد من الأنبياء وما جرى معهم، لأنها حقائق عاشتها هذه الحضارات والأمم البائدة ولأنها أيضاً بقايا سليمة من المعتقدات التي عاصرتها. - إن زعم العلمانيين أن الأديان السماوية هي تطوير للأساطير هو قلب للحقائق، حتى قالوا أن أخناتون هو من اخترع التوحيد !!! لأن الأساطير هي في الحقيقة تحريف للدين الذي هو الإسلام، فعبر التاريخ كان توحيد الله عز وجل هو الأصل والأساس ولكن الإنسان الذي من طبعه الجهل والعجلة والظلم وحب الهوى " وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " (الأحزاب 72)، لهذه الطباع كان الإنسان ينحرف عن الصراط المستقيم للتوحيد ليقع في بحر الشهوات والشبهات برعاية الشيطان الرجيم، فتولد عن ذلك الأساطير والعقائد المحرفة والشهوات الدنيئة. - وليومنا هذا يعجزالباحثين في التاريخ والإنثربولوجيا عن تفسير وجود المصنوعات الدقيقة أو الضخمة من قبل الحضارات القديمة!! كما لا يزال العلم لليوم يقف حائراً حول انجازات الحضارات السابقة من التحنيط أو حدائق بابل أو بناء الأهرامات وغيرها. لكن إذا تذكرنا أن الإنسان الأول كان قد زوده الله عز وجل بالعلم بأسماء الأشياء، وأنه عاش في الجنة التي " فيها ما لا عين رأت وأذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "، وإن أجدادنا من البشر كانوا يتوارثون أخبار الجنة من أبيهم آدم وأمهم حواء، ولذلك كانوا يحاولون تقليد نعيم الجنة، وهذا فقط يفسر مصدر الخيال لتشيد هذه المباني الضخمة مع بساطة الإمكانيات، والقدرة على اختراع أدوات نافعة ودقيقة مع عدم توفر الألات الحديثة، إن زيارة لمتاحف الحضارات القديمة أو قراءة أخبارها تذهلك بما تم انتاجه من آلاف السنين. إن الانتباه لما تتلقفه أجيالنا المسلمة عبر هذه الوسائط الثقافية من معتقدات وأفكار تصطدم بالإسلام والعلم والواقع قضية ملحة، ذلك أنها كالأسلحة الحديثة تقتل دون أثر وهذا مكمن خطورتها!!
قصة البشرية بين القرآن والأساطير والفن!!
2014/06/01
الرابط المختصر
Image