أسس دولة الخلفاء الراشدين

الرابط المختصر
Image
أسس دولة الخلفاء الراشدين

قبل موسم الحج تناولنا في عدة مقالات قضية الحضارة الشامخة التي بناها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على ضوء هدايات الوحي الرباني المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأوضحنا ضخامة الإنجاز الحضاري الذي قاموا به من جهة المبادئ والقيم ومن جهة السلوكيات والتصرفات ومن جهة المساحة الكبيرة في الزمن القليل ومن جهة الدوام والثبات لحضارتهم. وبينا أن حضارة الصحابة وهي الأساس المتين الذى قامت عليه الحضارة الإسلامية ارتكز على الدين وخاصة عقيدة التوحيد، الذى هو لب الرسالة الإسلامية لدى جميع الأنبياء والرسل، وأن الصحابة الكرام من خلال إيمانهم بالرسالة المحمدية وفهمهم العميق لها، ومن ثم التفانى في حملها وتنفيذها تمكنوا من قيادة البشرية جمعاء في سنوات معدودات حتى كان نابليون الأول يقول :" إن العرب فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن" !!   ونواصل اليوم الحديث عن جانب عظيم آخر قام به الصحابة الكرام لمصلحة البشرية جمعاء، ألا وهو جانب تقديم النموذج المثالى للفكر السياسي وصورة وشكل الدولة التي تحقق السعادة الحقيقية لرعاياها. ومن الملاحظات المهمة هنا أن المسلمون مأمورون شرعاً باتباع سنة الخلفاء الراشدين لقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور" رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة. وأهم سنن للخلفاء الراشدين يمكن الإقتداء بها هو سنتهم في الإمامة والحكم ورعاية شؤون المسلمين، لأنه ما تفردوا به عن بقية الصحابة الكرام والمسلمين. وقد قام د.حاكم المطيري في كتابه "تحرير الإنسان وتجريد الطغيان، دراسة في أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي" بمحاولة جريئة لجمع وتفصيل طبيعة الخطاب السياسي الذي نزل به الوحي في القرآن والسنة وطبقه الخلفاء الراشدون فشهد العالم أجمع نموذجاً فريداً للدولة كما ينبغي أن تكون في العدل والرحمة والحق. ويمكن أن نجمل ما توصل إليه د.المطيري في النقاط التالية: 1- الإسلام لابد له من دولة تقوم به وتنصره وتحميه وتجاهد في سبيله، ولذلك بادر الصحابة الكرام مباشرة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإجتماع والتشاور لتعيين القيادة الجديدة. 2- لا تستقيم أمور الدولة إلا بالطاعة لإمام له عقد وبيعة بالرضا والإختيار من خلال الشورى بين المسلمين، لأن العلاقة بين الأمة والإمام/الحاكم هي علاقة عقد بين طرفين، الأمة هي الطرف الأصيل والحاكم وكيل عن الأمة في إدارة شئونها، فليست الإمامة والسلطة في الإسلام بتفويض إلهي ولا بحق موروث أو بالمغالبة والمنازعة، وأول عقد اجتماعي عرفته البشرية هو عقد أهل المدينة المنورة مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رضي أهل المدينة في بيعة العقبة وصحيفة المدينة أن يحكمهم النبي صلى الله عليه وسلم برضى منهم واختيار. وبهذا العقد والرضي بعد المشاورة أصبح للصديق أبي بكر حق الطاعة على المسلمين، وليس قبل ذلك، وكذا هو الحال مع بقية الخلفاء الراشدين فلم تقم لهم سلطة إلا بعد أن رضي المسلمين بهم خلفاء لهم وعقدوا لهم بيعة الطاعة باختيارهم. 3- احترام حق حرية التعبير للمسلمين كافة، فلقد قام العصر الراشدي على إتاحة الفرصة للجميع لإبداء رأيهم وتقديم خبرتهم، فلم يعاتب أحد على ما قاله في سقيفة بنى ساعدة حين قال بعضهم: "منا امير ومنكم أمير"، وكذلك حين أساء الأدب بعض المسلمين مع عثمان رضي الله عنه بل طالبوا بعزله وخلعه فلم يعاقبهم أو يزجرهم، بل لقد نهى عن الدفاع عنه حتى حين حاصروه في الدار.  4- إقرار مبدأ التعددية السياسية في إطار الإسلام، فلم يرفض أبو بكر وعمر مبدأ "منا أمير ومنكم أمير"، لكنهم بينوا أن العرب لا تجتمع إلا على رجل من قريش، كما تجلت التعددية السياسية في جعل عمر الإمامة بين ستة من الصحابة ولم يحصرها في رجل واحد، وحتى حين حسم الأمر عبد الرحمن بن عوف فإنه رجح تولية عثمان على علي لإلتزام عثمان بسيرة الشيخين ورفض علي لذلك، كما أن قبول علي ومعاوية مبدأ التحكيم بينهما يدل على ثقافة التعددية السلسية السائدة في المجتمع الراشدي.  5- وهذه التعددية السياسية محكومة في إطار الإسلام، ولذلك كان دولة المدينة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم هي أول دولة تقوم على أساس دستوري تحدد فيه مرجعية الإختلاف التي يتحاكم إليها الحاكم والمحكوم وهي قوله تعالي: "إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه" (يوسف 40). 6- تأصيل وترسيخ الحقوق الفردية والكرامة الإنسانية، وهي: - حق الحياة وحرمة الإعتداء عليه، فلم يعرف العهد الراشدي قضايا الإضطهاد والقتل للمخالفين كما هو حال الدول المعاصرة لها من الأديان الخرى. - حق الحرية وعدم استرقاقه، ولذلك بادر عمر بن الخطاب إلى تحرير الرقيق من العرب الذي تم استرقاقهم في الجاهلية بالسبي، فشراهم وحررهم، فكان العرب أول أمة تتخلص من الرق. - حرية التنقل والتصرف والعمل والتجارة، وهي حقوق كفلتها الشريعة وحثت عليها النصوص الشرعية. -  حرية الاعتقاد، فلم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد خلفائه الراشدين في معاركهم وفتوحاتهم أجبروا فرداً على اعتناق الإسلام أيا كان دينه، رغم دخولهم تحت حكم المسلمين. - حرية الانضمام للتجمعات السياسية والفكرية، فلم يمنع عثمان وعلي خصومه من أصل التكتل والتجمع، مع أنهم يوقنون أنهم على باطل وأنه يحرم الإنضمام إلى الخوارج لغلوهم وتطرفهم، ولكنهم منعوهم من الإعتداء على حق الدولة أو الأفراد كما في مقولة علي المشهورة في الخوارج: " "لهم علينا ثلاث: ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيه اسمه، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا". - حق دفع الظلم ومقاومته، وقد نصت عليه أحاديث كثيرة. - حماية حقوق الأقلية وأهل الذمة، فلهم سائر الحقوق السابقة كما أن دمائهم وأموالهم معصومة لايجوز التعدى عليها، كما أنهم متساون أمام القضاء مع المسلمين فلا يميز المسلم عن غيره في مجلس القضاء أو يحابى، ولهم حق الإعاشة من بيت مال المسلمين إذا عجز عن كسب عيشه، ولهم حق على الدولة أن تفك أسيرهم من بيت المال، ولهم حق التقاضي وفق ملتهم، ولهم حقوق اجتماعية كحق حسن الجوار وعيادة المريض. كانت هذه هي ملامح وخصائص السياسة التي سار عليها الخلفاء الراشدون والتي استقوها من القرآن والسنة، فقدموا للبشرية حلمها الذى تبحث عنه بالسعادة والعدالة والرحمة والحق، وإن البشرية لعلى موعد جديد مع حلمها حين يحين موعد تحقق قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " رواه أحمد.