العقلانية في فهم السلف

الرابط المختصر
Image
العقلانية في فهم السلف

من الشبهات التي يرددها البعض للطعن بالمنهج السلفي دعواهم أن التمسك بفهم السلف/ الصحابة للوحي (القرآن والسنة الصحيحة) يؤدي إلى تجميد العقل ويقيد الحركة العلمية، ويحدّ من تراكم المعرفة عبر الزمن!! وهذه الدعوى ليست وليدة اليوم بل هي دعوى قديمة تتجدد كل مدة، لكنها سرعان ما ينكشف زيفها للباحثين عن الحقيقة، ولذلك يزدهر دوماً المنهج السلفي في واقع الناس وينمو ويتمدد حاملاً معه التمسك بالحق والتوحيد والتخلق بمكارم الأخلاق محارباً الظلم والجهل والخرافة، وتجده في طليعة الصفوف في قضايا الأمة مصداقاً لوعد النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (حديث صحيح، رواه أبو داود). وعلة هذه الدعوى التي يزعم أصحابها أن السلف والسلفيين أتباعهم لا يقدرون العقل ولا يتبعونه، أنهم لا يعرفون معنى العقل الذي ينادون بنصرته!! فهذا الجويني يقول: "فإن قيل: فما العقل عندكم؟ قلنا: ليس الكلام فيه بالهيّن" (البرهان 1/95)، وهذا الغزالي يقول: "وكذلك إذا قيل: ما حد العقل؟ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد، فإنه هوس" (المستصفى 1/64). أما العلمانيون العرب المعاصرون فهم أيضاً لا يملكون معنى أو مفهوماً واضحاً للعقل كما اعترف بذلك عادل ظاهر في كتابه "أولية العقل"!! وعلى هذا فكيف تتهمون السلف والسلفيين بأنهم أعداء للعقل وأنتم لا تعرفون ما هو العقل أساساً حتى تعرفوا موقف السلف والسلفيين منه؟؟ فهي دعوى باطلة لكنها مزوقة ومزينة بحيث تخدع البسطاء والجهال. ومن جهة أخرى إن كان زعمكم صحيحاً بأن السلف والسلفيين أعداء للعقل، وأنكم دعاة العقل وأنصاره، فلماذا نراكم متنازعين متخاصمين كأنكم "حمرٌ مستنفرة * فرّت من قسورة" (المدثر، 50-51)، ليس بينكم اتفاق ولا وفاق، تتبنون الأمر ونقيضه، وبعضكم باسم العقل يتبنى الحيرة والآخر يصحح جميع الأقوال المتعارضة، وتزعمون بعد ذلك أنكم ملتزمون بمنهج العقل والعقلانية، فإن كانت هذه العقلانية فما هو الجنون؟؟ ولكن منهج السلف/ الصحابة الذي يسترشد بالوحي الإلهي هو المنهج العقلاني الحقيقي، لأنه توصل للحل الصحيح للمعادلة، فالعقل عند السلف هو الغريزة التي يعلم بها الإنسان ويدرك، وهو مناط التكليف وعلى أساسها يحاسب ويساءل، فإن أحسن أُثيب وإن أخطأ وأساء عوقب، وهذه الغريزة هي من جملة المخلوقات التي خلقها الله عز وجل، ولذلك فالمعرفة والعلم الناتجان عنه ستكون معرفة وعلم مخلوق يتصف بالنقص والقصور واحتمال الخطأ، فكيف يصح أن يقارن أو يوضع مقابل علم الخالق، الله سبحانه وتعالى!! وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه الكبير "درء تعارض العقل والنقل"، للكشف عن حقيقة منهج السلف تجاه العقل وتفنيد مزاعم خصومهم، فقرر منهج السلف بالقواعد التالية: 1- التسليم لنصوص الوحي (القرآن والسنة الصحيحة) من غير قيد أو شرط، لأن هذا مقتضى وحقيقة الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، قال تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين" (المائدة،92). 2- تضمن الأدلة النقلية للأدلة العقلية، فكثير من الآيات والأحاديث تحتوي على أدلة عقلية، فهي أدلة نقلية عقلية، فقوله تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" (الطور، 35)، وقوله تعالى: "ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً" (الزمر، 29)، وغيرها من الآيات، وكحديث النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شك في ولده بسبب اختلاف لون بشرته عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمْر، فقال له: هل فيها من أورق؟ (أي يميل لونه للسواد)، قال: نعم، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: أراه عرقٌ نزعه، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق". متفق عليه. ومثله حديث الشاب الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا، فقال له: "أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله  جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال – رواي الحديث – فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (حديث صحيح، رواه أحمد).   وقد نبّه شيخ الإسلام على تقصير كثير من أهل الحديث عن التفطن للأدلة العقلية في القرآن والسنة فقال: "وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة، قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك" (مجموع الفتاوى 11/338). 3- امتناع التعارض بين العقل والنقل، وأن وقوع ذلك مستحيل، ولذلك فإن من يجوزون حصول ذلك ويقدمون العقل على النقل رغم مرور مئات السنين لم يستطيعوا تقديم مثال واحد على تعارض عقلي سليم مع نقل شرعي صحيح!! وافتراض حصول هذا التعارض طعن في الله عز وجل وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى، فكيف يتعارض القرآن الذي وصفه الله عز وجل بالبرهان والنور المبين "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً" (النساء، 174)، مع العقل السليم أو الواقع؟؟ وقد أكد شيخ الإسلام أن ما يظن فيه التعارض بين النص الشرعي والعقل، فهو ناتج إما عن نص لم يصح (والمقصود الأحاديث غير الصحيحة) أو فهم خاطئ للنص الصحيح، أو بسبب تصور عقلي غير سليم وما أكثره. ومن درس منهج السلف وتاريخهم يسجد أن السلف يستخدمون الأدلة العقلية في مناقشة القضايا ومناقشة خصومهم، ففي سقيفة بني ساعدة حين اختلف المهاجرون والأنصار من أين يكون الخليفة، حسم الصديق رضي الله عنه الخلاف بحجة عقلية "إن هذا الأمر لا تدين – تطيع – العرب فيه إلا لهذا الحي من قريش"، وفي مناظرة ابن عباس مع الخوارج أفحمهم بحججه العقلية، وعلى هذا سار الأئمة السلفيون فها هو الإمام أحمد يرد على الجهمية بأن من بنى داراً ثم خرج منها ألا يكون عالماً بها وبما فيها إذا كان في خارجها! فإن هذا في حق الله عز وجل من باب أولى أن يحيط علمه بالكون كله من غير أن يكون في شيء من خلقه، وأيضاً المناظرة المشهورة بين الإمام الكناني وبشر المريسي فهي قائمة على الحجة العقلية التي عجز عن ردها المريسي. فعقلانية منهج السلف تقوم على تقدير العقل وإكرامه، حيث أن مناط الأحكام الشرعية مرتبطة بوجود العقل في المكلف، وأن المخاطب بالوحي في الحقيقة هم أصحاب العقول "إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون" (الرعد،4). وأن العقل السليم لا يمكن أن يتعارض مع الوحي الصحيح، وهي المشكلة التي وقعت في أوروبا حين تعارض العقل والعلم مع الكنيسة بسبب التحريف وبسبب الأفهام المغلوطة، لكن الإسلام لا يعرف هذه المشكلة، فمن العبث تضييع الوقت في علاج وهْم غير موجود!! وأن الوحي الصحيح هو بذاته يقدم الكثير من الدلائل العقلية للمخاطبين، فكيف يكون معادياً للعقل؟ وعقلانية منهج السلف تقوم على إعطاء العقل دوره ومكانته الصحيحة، فلا يطلب منه الخوض فيما لا يستطيعه، وخاصة أمور الغيب لأنه طلب غير عقلاني أصلاً، كما لا يجوز قصر العقل عن دوره بالتفكر والاجتهاد فيما يستطيعه، ولذلك كان السلف والسلفيون دوماً مع الاجتهاد بخلاف المقلدين الجامدين دعاة العقلانية – زعموا – الذين نادوا بإغلاق باب الاجتهاد في الفقه والفروع المتجددة، وإعمال العقل في باب الغيبيات والعقائد الراسخة الثابتة، في موقف مصادم لأبجديات العقول السليمة !!.