هكذا يصنع الإسلام حضارته

الرابط المختصر
Image
هكذا يصنع الإسلام حضارته

شكلت الحضارة الإسلامية علامة فارقة في تاريخ البشرية لا تزال آثارها قائمة فيها وفي ما اقتبسته الأمم الأخرى عنها، وبرغم ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم من ضعف ووهن فإنها جاهزة للانطلاق الحضاري، ولعلّ في النموذجين الماليزي والتركي برهان ذلك، فضلاً عن آلاف وربما ملايين العقول الإسلامية المهاجرة للغرب، كما أن جزءا كبير مما تعانيه أمتنا اليوم من ضعف ووهن سببه سياسات الاستعمار بكافة أنواعه الغربي والروسي والصيني وغيرهم. فالسياسات التعليمية الاستعمارية تعمدت نشر الجهل والأمية في ربوع المسلمين من خلال تخريب العملية التعليمية والتضييق على المعلمين الأكفياء، فضلا عن تعقيد إجراءات إقامة المؤسسات التعليمية، ولعل حالة الجزائر أكبر شاهد على ذلك، فبعد أن كانت الجزائر متعلمة بالكامل، في الوقت الذي يندر من يعرف القراءة في باريس، جاء الغزو الفرنسي الظالم للجزائر للتهرب من سداد ديون الجزائر على فرنسا، فحُول الشعب الجزائري إلى شعب أمي بسبب تجريم تعلم اللغة العربية والتحدث فيها وسياسات الفرنسة التي لم تنجح وأرجعت الجزائر عقودا وقرونا للخلف، وهو الحال الذي تكرر في كثير من بلاد الإسلام. ولا تزال لليوم سياسات التعليم للأسف في كثير من البلاد الإسلامية تتعمد إخراج موجات هائلة من خريجي الجامعات الأميين على كافة الأصعدة!! أما تأثير الحضارة الإسلامية في الأمم الأخرى فهي الحقيقة التي لا ينكرها أحد، فالحضارة الغربية اليوم والقائمة على العلم التجريبي هي اقتباس من الحضارة الإسلامية الأندلسية والتي تعلم فيها كبار بابوات أوروبا وعلمائها، وهو الأمر الذي يعترف به الكثير من المؤرخين الغربيين وبكل وضوح. للإسلام طريقة فريدة لصناعة حضارته، فهو لا يبنيها بسرقة جهود الآخرين وثرواتهم، ولا يصنعها بدماء واضطهاد المساكين، ولا يقيمها على مبادئ مخادعة وانتهازية رخيصة، بل هو يفعل ذلك بكل وضوح ويسر وشفافية، وبإقناع تام وإرادة حرة. فالإسلام في دعوته لتوحيد الله عز وجل بالخلق والإيجاد والطاعة والاتباع، يجرد الآلهة الباطلة من سطوتها، ويهدم الأساطير المنافية للعلم والعقل والواقع، ويفتح المجال للتفاعل البناء مع الكون، ويرشد للأسباب الصحيحة المسيّرة لحركة الكون والتاريخ، وينبه على أن الكون مسخر لبني الإنسان. ويحث على العلم الشرعي والدنيوي والاستزادة منهما، ويدعو للعمل الإيجابي، ويحرص على الإتقان في تنفيذ الطاعات الشرعية والأفعال الدنيوية، ويأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن سفاسف الأمور التي تبعثر الطاقات والأموال والمقدرات والأوقات فيما لا فائدة منه. ومن مجموع تأثير هذه المفاهيم الشرعية على حياة المسلمين تبدأ مسيرة صناعة الحضارة الإسلامية، حيث تتحرر نفوس المسلمين من الخضوع لأوهام الشرك والوثنية والآلهة الزائفة، وتنطلق هذه النفوس من سجن الخرافات والأوهام والأسباب الخاطئة للأحداث. ويأتي العلم الشرعي والدنيوي ليرسخ أهمية معرفة الأسباب الصحيحة والتفاعل مع هذه الأسباب لنيل الرفعة والسعادة والنعيم في الدنيا، ومن هنا ازدهرت في الحضارة الإسلامية علوم الفلك والحساب والجغرافيا والميكانيكا (علم الحيل) وغيرها، بسبب حث الإسلام على الأخذ بالأسباب الصحيحة للحياة. وإعلاء الإسلام لمكانة العلم والعلماء، ساهم في اكتشاف الكثير الكثير من هذه الأسباب الصحيحة للحياة، والتي هي من صنع وخلق الله عز وجل، والتي تسمى في الشريعة الأقدار أو السنن الكونية، فالله عز وجل هو الذي وضع قوانين الحياة وسخرها لنا، وما علينا إلا تعلّم هذه القوانين والأقدار والسنن الكونية والاستفادة منها وتسخيرها لصالح البشرية جمعاء. ومن هنا كم جنت على أمة الإسلام والبشرية جمعاء الدعوات والعبارات الصوفية التي حاربت العلم والعلماء، وزهّدت المسلمين في المعرفة، واخترعت زوراً وبهتاناً مصادر للمعرفة غير سليمة ولا صحيحة كالعلم اللدني والمعرفة القلبية والمكاشفات والشطحات وما هي في الحقيقة إلا من تلبيس إبليس عليهم، وقد تسبب انتشار هذه المفاهيم المغلوطة في تقهقر قوة المسلمين العسكرية لتخلف حركة تطور العلوم عن حاجات الجيش، وتضعضع معيشة الناس لعدم كفاءة الوسائل المستخدمة لتكاثرهم واتساع رقعة سكنهم، فضلا عن تفوق الأعداء عليهم حين اقتبسوا مبادىء العلوم منا وطوروها، بينما سيطرت علينا هذه الأفكار الهدامة المنابذة للعلم والمشجعة على الجهل، ورافقها الفكر الجبري الذي زعم أن الله عز وجل أراد لنا الضعف والهوان والهزيمة!! والعجيب أن أعداءنا اليوم يسعون بكل قوة لإعادة إحياء هذه الأفكار ودعم دعاتها وتلميعهم في وسائل الإعلام!! والإسلام بعد أن يدعو للعلم الصحيح الشرعي والدنيوي، يحث على سرعة العمل والإنجاز، ويجعل الأجر والمثوبة على كل عمل صالح -ديني أو دنيوي-، بل هو يدعو ويؤكد على إتقان الأعمال وتجويدها. وتأتي الضوابط الشرعية والأخلاقية لتكون بمثابة معايير الجودة والسلامة، فلذلك ابتعدت حضارة الإسلام عن الترف المرضي والمؤذي، فمع كل مظاهر السعادة والغنى ووسائل الراحة والترفيه، لم تتعرض حضارتنا للآفات التي لحقت بالأمم الأخرى السابقة واللاحقة، من انتشار الأمراض الجنسية، أو ظواهر الانتحار والاكتئاب والاغتراب، أو تولد عنها مأساة لشعب أو أمة أخرى، فالضوابط الشرعية والأخلاقية جعلت الحضارة الإسلامية تمضي في مسارات يتفق عليها عقلاء البشر وأسوياء الفطرة الإنسانية. وبعد بذل كل هذا الجهد البشري تأتى البركة الإلهية لتضاعف النتائج و الثمار، ولذلك كانت الحضارة الإسلامية أسرع الحضارات قياما وانتشار. واليوم فإنه كلما فهم المسلمون دينهم أكثر وتمسكوا به أكثر، وأصبح هذا حالةً عامةً بينهم، سينعكس هذا على حالتهم الحضارية، وهذا واقع ملموس بيننا وهذه بعض الأمثلة: فاحترام كبار السن والعطف على الصغير هو السائد بيننا، ويندر التعامل مع بيوت العجزة إلا من فئات ضعيفة دينيا. احترام الحيوان وعدم إيذائه والاستنكار على من يفعل ذلك هو الشائع بين المسلمين. الحرص على الصدق والأمانة خلق ظاهر بين الناس، لكنه يحتاج إلى أن يعرف الناس مساحات أخرى يجب أن يشملها الصدق والأمانة قد يغيب عنهم الوعي بها. الحرص على التعلم أمر متفق عليه، ويحتاج إلى أن تتحسن البيئة العامة المساعدة له وأن تصوب النية والغاية من التعلم لينطلق من إطار العمل والوظيفة والعيش، ليصبح غاية وهدفا بذاته للكمال والرقي. وحتى في المجال المادي تجد في الأمة المسلمة الحرص على الارتقاء بالمنجزات واستخدام أدوات التحديث والمساهمة في حركة الاكتشافات، لكن ضعف البيئة المساندة على مستوى القوانين والأنظمة أو بعض العادات الخاطئة، وضغط الواقع المر، يخلخل الأولويات في سلوك كثير من الناس والمؤسسات. إننا كمسلمين نملك القدرة على الرقي الحضاري المادي بكل سهولة حين تتوفر القيادة الواعية، ونحن أيضاً أكثر استعداداً للرقي والحضارة على المستوى الأخلاقي والروحي والسلوكي حين تتوفر القدوة الصادقة والجذابة. وبسبب هذه الطريقة الفريدة للإسلام في صناعة الحضارة بقي المسلمون من شتى المنابت والأصول يعتزون بحضارتهم الإسلامية مهما غاب سلطانها السياسي أو ضعف قواها المادية، لأن ولاءهم لها نابع من عقيدة التوحيد التي اقتنعت بها عقولهم دون ضغط وإجبار والتي خاطبت فطرتهم وقلوبهم دون إكراه أو خداع. ولكن المشكلة الكبرى هي في وجود مخططات تعرقل كل ذلك، فهناك من يسوؤه غنى المسلمين ورفاهيتهم وسعادتهم، وهناك من يغيظه انتشار الإيمان والأخلاق والعلم في أوساطهم، وهناك من يتضرر بوجود حالة استقرار سياسي واقتصادي بينهم وسريان روح الشورى والمشاركة في حياتهم، وهنا يأتي دور القيادة الدينية والسياسية للعمل في وسط هذه المنعرجات لكي تصل حاضر الأمة بحضارتنا الباسقة.