لم يكد تمضي تسعون عاماً على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا وكان المسلمون يقرعون أبواب فرنسا في قلب أوروبا، بعد أن حرروا الجزيرة والشام والعراق وبلاد فارس وما وراءها ومصر وشمال أفريقيا ومن ثم عبروا إلى الأندلس، فدخلت الأمم والشعوب في دين الله أفواجاً. ومنذ ذلك اليوم لم يترك شعب أو أمة من الأمم دين الإسلام رغم ما شهده تاريخ المسلمين من خسائر وهزائم، وقبل أن يستفحل فيه التخلف والضعف حين ضعف تمسكهم بالإسلام، إلا أهل الأندلس الذين أجبروا على الهجرة أو الارتداد أو القتل فلم يعد لهم وجود. إن ما حققه المسلمون في 90 سنة أكثر مما وصلته إمبراطورية الرومان في 800 سنة، وكان نابليون الأول يقول :" إن العرب فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن" !! والفارق بين ما صنعه المسلمون وما صنعه الرومان، أنه حين زال ملك روما زالت أثرها أيضاً، بعكس المسلمين، الذين لا يزالون يعتزون بإسلامهم ويحافظون عليه، بل إن كثيرا من الشعوب الإسلامية غير العربية ساخطون على العرب لأنهم فرطوا في الإسلام!! ولذلك قيل إن فتوحات الرومان كانت فتوحات عسكرية فحسب، بعكس فتوحات المسلمين التي كانت فتوحات عسكرية وسياسية وعقلية وروحية وثقافية، فلما ضعفت القوة السياسية والعسكرية بقي الفتح العقلي والروحي والثقافي موجوداً لدى الأمم والشعوب. وهذا يستدعي التأمل والتفكير في سبب سرعة هذا الانتشار، كما يستدعى التأمل في سبب بقاء وتجذر هذا الإسلام في هذه الدول والشعوب المتباينة والمختلفة. فمن أسباب سرعة الانتشار أن الوحي الصحيح حين يصل إلى القلوب وتتفاعل معه الجوارح يولد دافعية كبيرة للعمل كما أنه يقدم نموذجاً في غاية الإتقان والجاذبية على كافة الأصعدة والمستويات، ولعل من أوجه تقصيرنا اليوم تقصيرنا في إبراز الدور الإيجابي والحضاري الذي قدمه سلف هذه الأمة من الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، فإن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم هم من تلقوا أنوار الوحي بقلوب منشرحة وعقول واعية، فانعكست على سلوكهم وتعاملهم، فخرجوا للعالم يحملون له المنهج الصحيح ويقدمون له النموذج المثالي، فسكن الإسلام قلوب شعوب العالم لليوم. إن دراسة وتأمل منهجية وسياسات الصحابة في إدارة العالم موضوع لم يطرق كثيراً ولم تسلط عليه الأضواء، رغم أن منهج الصحابة قام على الإبداع والابتكار والإستفادة مع التطوير من معارف السابقين، وما أصدق قول جوستاف جروينباوم في كتابه " حضارة العرب": " إن الحضارة الإسلامية تبدو كأنما تلتهم كل شيء صادفته، ولكن الواقع انها كانت تتخير غذائها تخيراً دقيقاً، فلقد تقبلت كل مساهمة من شأنها أن تساعدها على الاحتفاظ بهويتها مهما تغيرت الظروف". فقد طور الصحابة أساليب القتال واستفادوا من وسائل الفرس والروم الحربية، لكنهم رفضوا ثقافتهم الدموية في التنكيل بالخصوم أو البنية التحتية، ولذلك حين أرسل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس أحد قادة الروم أنكر ذلك، فقالوا له: يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا! فقال الصديق: " فاستنان بفارس والروم؟! لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب و الخبر"، فقد رفض تقليد فارس والروم بهذا الفعل السيء، وهو بذلك قد يرسخ أخلاق الإسلام الحربية الشريفة التي لم يكن يعرفها العالم في عصره. إن الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وحمله أصحابه للعالم لا يزال له الفضل الأكبر على الحضارة البشرية، ولا تزال آثاره وبصماته مبثوثة في كثير من العادات والأعراف والتشريعات والدساتير العالمية، فضلاً عن قيام كثير من العلوم العصرية على إبداعات علماء المسلمين السابقين. في زماننا هذا بعد أن ترسخ لدى الغالبية أن عزنا يكون بالتمسك بديننا، نحتاج أن نفهم ديننا بعمق وأن ندرس بصدق كيف طبق الصحابة هذا الدين على أنفسهم وفي حياتهم، وما هي القواعد والأسس التي بنوا عليها حضارة الإسلام، فنجحوا في قيادة العالم وإشراكه معهم في هذه القيادة، فنعمت البشرية بعصور زاهية من السعادة والرقي والطمأنينة، بعكس ما روجه المستشرقين من الغربيين والمتغربين من المشرقيين. إن تجاوز دراسة مرحلة التأسيس التي قام بها الصحابة تعد خطأً منهجياً جسيماً، لأن ما قام به الصحابة هو الميزان الذي يجب أن توزن به بقية مراحل التاريخ الإسلامي، كما أنها النموذج المثالي المنشود والموعود بقوله صلى الله عليه وسلم: " ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ". ومن هنا فإننا نحين نرفع شعار إتباع السلف واقتفاء أثرهم، فإننا ندعوا إلى طريق الحرية والكرامة والعزة مع الحق والعدل والرحمة التي نشروها على العالم قروناً طويلة. وللحديث صلة.
الدورالحضاري العالمي للصحابة
2014/06/01
الرابط المختصر
Image