التطور السياسي في دولة الخلفاء الراشدين

الرابط المختصر
Image
التطور السياسي في دولة الخلفاء الراشدين

نواصل الحديث عن دولة الخلفاء الراشدين التي أشادوها على هداية الوحي ( قرآناً وسنة)، وأن هذه الدولة التي قدموها للعالم كانت تراعى ضوابط الوحي الإلهي الذى هو أعلم بما يصلح الناس، وتراعى تغير أحوال الناس والدولة نفسها. فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تداعى سادة الصحابة من الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم تلقائياً إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة – أشبه ما تكون اليوم بمزرعة الوجهاء- لبحث من يتولى السلطة خلفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدم الطرفان حججهما ورؤيتهما حتى طرح أحد الأنصار تقاسم السلطة بقوله: " منا أمير ومنكم أمير"، فلم يعاتبه أحد لا في لحظتها ولا فيما بعد، ولكنهم توصلوا من خلال الحوار والنقاش إلى أحقية قريش بالخلافة، وهو الموضوع الذي لم يتم الإعتراض عليه أبداً بعد ذلك، مما يدل على مدى التوافق والاقتناع الذى خلص له المتحاورون. كما أنهم اتفقوا على أحقية الصديق رضي الله عنه، رغم أنه ليس من أكثرهم مالاً أو جاهاً قبلياً ولا هو من أهل المدينة أصلاً، فبايعه الموجودين في سقيفة بني ساعدة، ومن ثم بايعه بقية المسلمين في المسجد البيعة العامة، فحصل له ببيعة المسلمين حق الطاعة عليهم. وقد كان هذا الاتفاق من المتانة بحيث أن سائر الصحابة بايعوا وتعاونوا مع الصديق، وحتى أنه لم يكذب على أحدهم - في كتب التاريخ- أنه حاول خيانة هذا الاتفاق رغم ما تعرضت له الدولة الإسلامية من أزمات كبيرة مثل مهاجمة القبائل المرتدة للمدينة المنورة. وهكذا بالحوار الراقي والحر توصل الصحابة رضوان الله عليهم إلى أول ممارسة شورية سياسية، برهنت على مدى نجاح التربية النبوية ومدى الرقي التي وصل لها الصحابة. وحين حضرت الصديق الوفاة، رد للمسلمين أمانتهم، لأنه يعلم أن العلاقة بين الأمة والإمام/الحاكم هي علاقة عقد بين طرفين، الأمة هي الطرف الأصيل والحاكم وكيل عن الأمة في إدارة شؤونها، وحين يعجز عن ذلك لمرض أو ضعف أو تقصير يضيع مصلحة الأمة، فإنه لا حق له في الطاعة، ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " إنه قد نزل بي ما قد ترون، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمِّروا عليكم من أحببتم". ولكن الصحابة رضي الله عنهم لما يعلمونه من صدق وإخلاص وحكمة الصديق، طلبوا منه أن يستخلف لهم، وأصرواعلى طلبهم، فلم ينفرد أبو بكر بالقرار، بل استشار كبار المهاجرين والأنصار في من يتولى الخلافة، ثم جمعهم وقال: "هل ترضون بمن اخترته لكم؟ فوالله ما وليت ذا قرابة، ولا ألوت من جهد الرأي، قالوا: نعم وعرفناه! ". فرغم طلب الصحابة من الصديق أن يولي عليهم من يراه الأصلح، إلا أنه شاورهم في ذلك أيضاً، وهنا أيضاً لم ينعقد لعمر الفاروق حق الطاعة حتى بايعه المسلمون وقبلوا به خليفة لهم. ونلاحظ هنا تطوراً في كيفية نقل السلطة، مع ترسيخ واضح من الصديق رضي الله عنه لحق الأمة في السلطة وأنها هي التي تنصب الإمام، وليس له أن يستفرد بالأمر دونها، وأن الشورى هو جوهر العملية السياسية في دولة الإسلام. أما حين حضرت عمر الفاروق رضي الله عنه الوفاة - بعد أن طعنه المجوسي أبولؤلؤة-  فقد أكد على مبدأ ولاية الأمة لنفسها، وانعزال الإمام وفقده لصلاحياته عند عجزه عن القيام بأعباء الإمامة ومسئوليتها، وأنه لم يعد أميراً ولا خليفة عليهم، وذلك حين دخل عليه كبار الصحابة يطمئنون على صحته؛ فسلموا عليه بقولهم: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فرد عليهم الفاروق بقوله: " لست اليوم لكم بأمير"، وأن أمانة السلطة قد عادت للأمة، وهذا المبدأ لم تعرفه النظم السياسية العالمية إلا حديثاً !!  ومرة ثانية يطلب الصحابة من خليفتهم الثاني ترشيح الخليفة من بعده فيرفض، ولكن مع إصرارهم يضع لهم عمر الفاروق خطة ونظام يعالجان كل الاحتمالات الممكن حدوثها أثناء عملية الترشح والاختيار، كما يوضح د. حاكم المطيري في كتابه " تحرير الإنسان وتجريد الطغيان"، تقوم على الخطوات التالية: - حصر الترشيح في ستة أشخاص هم بقية العشرة المبشرين بالجنة، واستثنى منهم سعيد بن زيد لكونه ابن عمه!! فإن الفاروق لم يكن يولى أقاربه أبداً، ولئن عمر وجد أن هؤلاء هم المرشحون من قبل أهل المدينة ولهم مؤيدون يرغبون برؤيتهم خليفة للمسلمين. - أمر بجمع المرشحين في مكان للتشاور، وأمهلهم ثلاثة أيام فقط يصلون لاتفاق بينهم. - أمر المقداد بن عمرو - لأنه من كندة وليس من قريش - أن يشرف على عملية تشاور المرشحين الستة، والتنسيق بينهم، وأن يستحثهم على حسم الموضوع. - كما أمر أبا طلحة الأنصاري أن يختار خمسين رجلاً من الأنصار للمراقبة ومعاقبة من يريد رفض الاجماع أو الأغلبية، واختار الأنصار لكونهم طرفًا محايدًا ليسوا من المهاجرين. - أمر صهيب الرومي أن يصلي بالناس – والصلاة من علامات القيادة - مدة تشاور المرشحين الستة، ليضمن الحياد التام في عملية الانتخاب، حتى لا تكون الإمامة في الصلاة سببًا مرجحًا لواحد من الستة، واختار صهيبًا لكونه لا نسب له بواحد من المرشحين. ومن ثم وضع قواعد لضبط عملية المشاورة بين المرشحين، حسب الإجراءات التالية: - إذا اتفق خمسة منهم على واحد فهو الخليفة إذا قبله المسلمون وبايعوه البيعة العامة. - إذا اختلفوا فاختار الأكثر واحدًا منهم فهو الخليفة؛ إذا قبله المسلمون. - وإذا اختلفوا وتساوت الأصوات، فهنا يشترك عبد الله بن عمر في الأمر كمرجح بينهم – ولا يحق له طرح نفسه كمرشح وتولى الخلافة- ، فإن لم يكن له رأي أو لم يقبلوه، فهنا يؤيد عبد الله الجانب الذي يزكيه عبد الرحمن بن عوف لمعرفة عمر أن عبد الرحمن لا يرغب بالخلافة. والدارس لهذه المرحلة يجد أن الفاروق لم ينفرد بتحديد المرشحين بل استمزج الرأي العام، وقدم مرشحيهم لعملية التشاور، وإضافة ابنه عبدالله كمرجح فقط عند الخلاف هو بسبب رغبة كثير من المسلمين في توليته خليفة بعد أبيه وهو ما رفضه الفاروق. ونجد أنه عالج كل الاحتمالات وهي اتفاق المرشحين أو تعادلهم أو اختلافهم، وفي كل الحالات لابد من رضى المسلمين لعقد ولاية الخلافة؛ للمجمع عليه أو الفائز بالأغلبية أو بترجيح عبد الله بن عمر أو عبد الرحمن بن عوف.  ولم يتوقف التطور السياسي عند هذا الحد، بل نجد أن سلوك المرشحين أنفسهم يدل على وعي عميق بمقاصد الشريعة الإسلامية، وتطبيق دقيق وابداعي للعملية السياسية، فقد بادر عبد الرحمن بن عوف للطلب من المرشحين عمل تصفية بينهم من خلال تنازل ثلاثة مرشحين لثلاثة مرشحين، فتنازل الزبير بن العوام لعلي بن أبي طالب، وتنازل طلحة بن عبيد الله لعثمان بن عفان، وتنازل سعد بن أبي وقاص لعبد الرحمن بن عوف. وهنا طلب عبد الرحمن تنازل أحد المرشحين الثلاثة ليكون المرجح في الاختيار بشرط أن يختار الأفضل، فسكت علي وعثمان، فتنازل هو وطلب أن يوكل إليه مهمة تحديد الخليفة بشرط أن يختار الأفضل، وتم الاتفاق على ذلك. وهنا لم ينفرد عبد الرحمن بن عوف بالاختيار، بل قضى المدة المحددة - وهي ثلاثة أيام - في مشاورات مستمرة لأهل المدينة شملت المهاجرين والأنصار ورؤوس الأعراب وأمراء الجند الذين حجوا مع عمر الفاروق، كما أن عبد الرحمن استشار النساء في البيوت والأطفال في الكتاتيب، فأجمعوا على عثمان. وهكذا تم تولية عثمان عن مشورة من المسلمين وبرضى الجميع في شفافية ووضوح وعلانية، وقد تقبل المرشحين وبقية المسلمين ذلك بفرح وسرور، وتعاونوا مع الخليفة الجديد. ومبدأ تولى الخلافة عن مشورة المسلمين وبكل وضوح وعلانية، هو ما طالب به علي رضي الله عنه بعد مقتل عثمان ذي النورين رضى الله عنه، فحين طلب بعض المهاجرين والأنصار من علي تولي الخلافة بعد مقتل عثمان رفض ذلك، إلا أن تكون بيعة عامة ومعلنة في المسجد، حيث قال: " ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين". وهكذا نجد أن الخلفاء الراشدين رسخوا مبدأ سلطة الأمة في تولية الإمام، ومبدأ الشورى في العملية السياسية، وعملوا على تطوير الإجراءات والآليات للرقي بالعملية السياسية، وهم في ذلك كله متبعون لهداية الوحي الإلهي لما فيه سعادة البشرية.