من المؤسف أن نعمة انتشار المعرفة والعلم لا تخلو من شوائب ومعايب، ومن ذلك انتشار كثير من الأكاذيب واعتبارها حقائق لا مجال لنقاشها بسبب تكرارها، وهي قاعدة إعلامية أسسها غلوبز وزير الإعلام النازي بقوله: أكذب ثم أكذب وستصدق الكذبة !! ومن هذه الأكاذيب الدارجة أنّ ظاهرة التكفير والعنف المعاصرة هي ظاهرة ومشكلة سلفية، كقول ياسر الزعاترة بصحيفة الدستور 11/5/2011 " أن بعض هذه المجموعات ( السلفية) تعاني من سهولة الاختراق والتطويع، بدليل أنها هي ذاتها التي خرج من رحمها تيار العنف قبل مراجعاته المعروفة ". وهذه الفرية أصبحت حقيقة عند الجمهور بسبب كثرة تردادها، وبسبب تقاعس غالب السلفيين بل معضمهم عن التواصل الإيجابي مع وسائل الإعلام المختلفة، والاقتصار على مخاطبة الذات على طريقة الأعرابي الجاهل " أوسعتهم شتماً وأودوا بالأبل ". والحقيقة التي يتعامى عنها الزعاترة وغيره أن التكفير والعنف مشكلة إخوانية، بينهم نشأت وترعرت، وبينهم راجت وانتشرت، ومن ثم صدروها للسلفيين عبر منظريهم الذين لجؤا إلى السعودية؛ التي احتضنتهم ودمجتهم في مؤسساتها بل تجنس بعضهم بجنسيتها، فأصبحوا قادة التوجيه فيها في وزارة التربية وبعض المؤسسات الدعوية !! وليس هذا الكلام تهمة ليس لها دليل بل الأدلة عليها كثيرة ومتعددة، مما يجعل إيرادها جميعاً في غاية الصعوبة، لكن سأحاول إيراد أبرزها على شكل نقاط مختصرة: 1- معلوم أن أول ظهور لفكر التكفير في العصر الحاضر كان بين سجناء جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1965، وتزعّم هذا الفكر خريج الأزهر علي إسماعيل شقيق عبد الفتاح إسماعيل؛ الرجل الذي قام بإعادة إحياء تنظيم الإخوان المسلمين بعد اعتقالات 1954، والذي استقطب سيد قطب لقيادة التنظيم الجديد، وأعدم هو سيد قطب معاً سنة 1965. وبعد تراجع علي إسماعيل عن التكفير تابع تلميذه مصطفي شكري المسيرة، وبعض سجناء الإخوان سنة 1965، الذين رفضوا تقديم استرحامات لجمال عبد الناصر. 2- ومما ساعد على انتشار فكر التكفير بين سجناء الإخوان أفكار سيد قطب التي تربى عليها تنظيم 1965 الذي أشرف عليه عبد الفتاح إسماعيل، وشدة التعذيب والتعدي على الذات الإلهية من ضباط السجن وقادة عبد الناصر. 3- وبسبب انتشار هذه الأفكار بين سجناء الإخوان، سارعت قيادة الإخوان للإستفسار من سيد قطب – وهو مسؤول نشر الدعوة بالجماعة - عن مسؤوليته عن هذه الأفكار، خاصة أنها جاءت بعد تأليفه لكتاب "معالم في الطريق" فنفاها ونسبت له مقولة: " وضعت حملى على حمار أعرج "، وقامت الجماعة سنة 1969 باعداد كتاب " دعاة لا قضاة " لمعالجة مشكلة التكفير بين أفراد الإخوان في السجن وخارج السجن، وبقي السجال في داخل الجماعة بين خط يؤيد أفكار سيد قطب وخط يرفضها أو يحاول تأويلها ونزع دسمها. 4- بقي الفكر القطبي متواجداً بقوة على الساحة بين تيارين، تيار من جماعة الإخوان في داخل وخارج مصر، وبين الجماعات الإسلامية المسلحة، والتي هي انشقاقات عن جماعة الإخوان بسبب تبنيها فكر سيد قطب كما يقول عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) في كتابه "دعوة المقاومة الاسلامية العالمية"، والقرضاوي في كتابه " الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد". 5- ومن المتأثرين بالفكر القطبي من الإخوان مثلاً الشيخ مروان حديد من سوريا والذي كان قائد أحداث حماة في السبعينات والذي كانت له صلات بعبد الفتاح إسماعيل؛ ود.إسماعيل الشطي الذي حضر محاكمة سيد قطب وتأثر بصلابة وعزة سيد فنقل أفكاره للكويت ولمجلة المجتمع، والشيخ محمد رأفت الذي تبنى منهج سيد قطب بغلو شديد مع الإخوان في منطقة البقعة بالأردن في السبعينيات حتى استنجد الإخوان بالألباني لحل مشكلة تكفير عموم المسلمين عندهم. 6- في السبعينات كان الإخوان خارج مصر يميلون لأفكار وتيار سيد قطب أكثر من ميلهم لأفكار حسن الهضيبي، يرصد هذا إبراهيم غرايبة في كتابه " جماعة الإخوان المسلمين في الأردن " بقوله: "وغلب على فكر الجماعة اتجاه التطرف وتكفير المجتمعات ووصفها بالجاهلية، وهي موجة فكرية عمت الحركة الإسلامية منذ منتصف الستينات، ولكنها تبلورت بقوة في السبعينات"، وأما د.فلاح المديرس في كتابه "جماعة الاخوان المسلمين في الكويت" فيقول: "في أواخر الستينات وبداية السبعينات حيث تمكن التيار الأصولي من السيطرة على القيادة التاريخية لجماعة الاخوان المسلمين في الكويت...مما أدى بقيادة الإخوان في الكويت في عام 1976 أن تصدر أوامرها بعزل جميع من تأثروا بفكر تنظيم التكفير والهجرة"، أما كتاب د.معتز الخطيب "سيد قطب والتكفير" فيرصد الصراع الإخواني حول فكر سيد قطب في سنة 1972 على صفحات مجلة "الشهاب" اللبنانية الإخوانية بين مؤيدي قطب ومخالفيه الذين مثلهم عبدالله أبو عزة بمقالاته "التكفير والجاهلية". وقد تغلب التيار المعارض لفكر سيد قطب من قيادة الجماعة من نهاية الثمانينات في غالب الدول. 7- وفي تطور لفكر التكفير في جماعة الإخوان ، نشأة فكرة أن جماعة الإخوان هي جماعة المسلمين، يقول محمد الغزالي في كتابه "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث": "ولقد عجبت لخلاف وقع بين شباب الإخوان المسلمين أثاره بعضهم بتشاؤم: هو: هل نحن جماعة المسلمين، أم جماعة من المسلمين؟ والإجابة على هذا السؤال لها نتائج ذات بال، بل نتائج ترتبط بها صيانة دماء وأموال! فإن الذين يحسبون أنفسهم جماعة المسلمين يرون مخالفة الأستاذ حسن الهضيبي ضرباً من مخالفة الله ورسوله، وطريقاً ممهدة إلى النار وبئس القرار! وقد كنت أسير مع زميلي الأستاذ سيد سابق قريباً من شعبة المنيل، فمرّ بنا اثنان من أولئك الشبان المفتونين وأبيا إلا إسماعنا رأيهم فينا وهو أننا من أهل جهنم! وصادف ذلك منا ساعة تبسط وضحك فمضينا في طريقنا وقد سقط طنين الكلمة النابية على الثرى قبل أن يتماسك في آذاننا ... فمن المضحك أو المبكي أن يخطب الجمعة في مسجد الروضة عقب فصلنا من المركز العام من يؤكد أن الولاء للقيادة يكفر السيئات، وأن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل، وأن الذين نابذوا القيادة (يقصد المرشد للجماعة) عادوا للجاهلية الأولى لأنهم خلعوا البيعة .. تغلغل هذا الضلال في نفوس الناشئة حتى كتب بعضهم لأخ له ـ من قبل ـ يسأله: هل تظن نفسك مسلماً بعد ما خرجت من صفوف الجماعة " ا.هـ. ولم يقتصر هذا على أفعال بعض الشباب بل أخذ طريقه ليدوّن ويُسطر في كتابات بعض القادة التاريخيين لجماعة الإخوان مثل سعيد حوى حيث يقول في كتابه " المدخل الى دعوه الاخوان المسلمين": " إننا في هذا المدخل استقرأنا النصوص لنصل إلى مواصفات جماعة المسلمين، وبرهنا على أنها موجودة في دعوة الأستاذ البنا "، ويقول أيضاً: " وقد أراد الأستاذ البنا رحمه الله من حركة الإخوان المسلمين أن تكون دعوتهم هي القاسم المشترك بين المسلمين وأن تكون الإطار الذي يضم عامة المسلمين... ولا زالت دعوة الإخوان المسلمين وحدها هي الجسم الذي على أساسه يمكن أن يتم التجمع الإسلامي في العالم"، ويقول:" إن مواصفات الجماعة التي يصح أن نعتبرها جماعة المسلمين موجودة في جماعة الإخوان كما أقامها البنا". وإن كانت الجماعة تنبهت لخطورة هذه الفكرة ونبذتها لاحقاً. 8- وبسبب مطاردة الأنظمة في مصر وسوريا والعراق للإخوان في الستينات والسبعينات لجؤا إلى السعودية خاصة والخليج عموماً، وعمل أكثر هؤلاء مدرسين في الجامعات والمدارس، فنقلوا أفكارهم للطلبة هناك وروجت بينهم أفكار وكتب سيد قطب. 9- وبسبب الأفكار القطبية وتفاعلها عند بعض الشباب ظهر خط جديد يجمع بين القطبية من جهة والمظهر والخطاب السلفي من جهة أخرى، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو: أبو محمد المقدسي الذي يقول عن نفسه في كتابه "مـيزان الإعتدال في تقييم كتاب "المورد الزلال": " أحب أن يعرف المتعصبون للظلال بأنني حين أتكلم عن الظلال فلست كأولئك الذين لم يقرؤوا منه إلا مواضع الانتقاد المشهورة كالكلام على سورة الحديد والإخلاص وما جاء فيهما والآيات المتعلقة بالاستواء ونحو ذلك .. بل قد أمضيت عمراً في رافد تصحيحي من روافد الإخوان (يقصد السرورية) الذين قد أرضعونا الظلال والمعالم وغيرها من كتب سيد وأخيه والمودودي – رضاعة في طور الحضانة ( أعني بداية الهداية)". وهذا اعتراف صريح من المقدسي حول حقيقة نشأته أن بدايته كانت مع جماعة الإخوان والأفكار القطبية، لكن بسبب طبيعة المقدسي لم ينضبط تنظيمياً في الإخوان أو ما تفرع عنها لكنه بلور الأفكار القطبية أكثر من خلال صلاته مع بقايا جماعة جهيمان – الذين تأثروا بجماعة مصطفي شكرى – صلته بالجماعات الجهادية القطبية في زياراته لبيشاور في الثمانينات. 10- ومع تصاعد وتيرة الجهاد الأفغاني ذهب الكثير من الشباب السلفي للجهاد هناك بدعم من دولهم، ولكن كانت معسكرات التدريب تحت إدارة الجماعات المسلحة فتعرض هؤلاء الشباب لعملية توجيه ودعوة للإنضمام لمنهج التكفير والعنف على يد الجماعات المسلحة المصرية والجزائرية والسورية والليبية وغيرها، وقد فصل ذلك كميل الطويل في كتابه " القاعدة وأخواتها" وخالد المشوح في "التيارات الدينية في السعودية"، ومما ساعد على ذلك غفلة العلماء السلفيين عن ما يحدث في مضافات بيشاور من غسيل أدمغة للشباب !! هذه هي الحقيقة حول أبوة الإخوان المسلمين لفكر التكفير وليس السلفية، وهي الحقيقة التي تدعمها كل الأدلة والوثائق. وغالب الصراع بين السلفيين والإخوان في السبعينات والثمانينات كان حول انكار السلفيين على الإخوان قضايا التكفير والعنف.
التكفير والعنف .. منتج إخواني !!
2014/07/01
الرابط المختصر
Image