القصاصون الرقميون!!

الرابط المختصر
Image
القصاصون الرقميون!!

تفتح البريد الإلكتروني فتجد رسائل عديدة تدعوك للمشاركة في كسب الأجر، وتحثك على نشر الخير من خلال معاودة إرسالها لمن تعرف، وعادة تذيل الرسائل بـعبارة "لا تجعلها تقف عندك"، وحين تطالع محتويات الرسالة تجدها أحاديث غير صحيحة عن فضائل لسور أو آيات من القرآن، أو قصة خيالية عن توبة أحد الأشخاص، أو خبر عن إسلام شخصية مرموقة، أو صورة عن حدث غير عادي كصورة شجرة تحمل لفظ الجلالة الله أو ما شابه ذلك. وقد ثبت أن كثيراً من هذه الأخبار والصور مفتعلة ومركبة بواسطة برامج التصميم والرسم على الكمبيوتر، وأن بعضها من صنع غير المسلمين للاستهزاء بهم وإظهار قلة عقولهم وقبولهم للخرافات، كما في صورة غابة الأشجار التي تشكل كلمة "لا إله إلا الله" أو صورة الفتاة التي تحولت إلى فأر!! أو صورة الجني في أحد كهوف الإمارات. أما فضائل الآيات والسور فللأسف فإن أغلب ما يرسل عبر البريد الإلكتروني غير صحيح، رغم أن شبكة الإنترنت تحوي العديد من الموسوعات الحديثية الموثقة التي تحتوى على أحاديث الفضائل الصحيحة، لكن الطبع البشري يميل للغرابة والإثارة، وهذه لا تجدها إلا في الأحاديث المكذوبة والضعيفة مثل حديث عقوبة تارك الصلاة وأنه يعاقب بخمس عشرة عقوبة، فهذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أن تارك الصلاة توعده الله عزوجل بدخول النار كما في قوله تعالى " قالوا ماسلككم في صقر* قالوا لم نك من المصلين". وغالب هذه الرسائل والايميلات تأتى من مجموعات بريدية مقصدها الخير ونشر الدين، لكن هذه الظاهرة تذكرني بظاهرة القصاص التي عرفت قديماً في تاريخنا، لذلك نحتاج إلى عدة وقفات معها: 1- القصاصون هم قوم يسردون القصص ويكثرون منها، فتراهم يسردون قصة تلو قصة معرضين عن القرآن الكريم والسنة النبوية، ويغلب على هؤلاء الإتيان بقصص غير صحيحة السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا سليمة المعنى، وحجتهم في ذلك أن الناس تحب القصص وتقبلها أكثر من الوحي المتمثل بالقرآن والسنة الصحيحة. والقصاصون ظاهرة عرفت في تاريخنا الإسلامي بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -:" لَم يكن يُقصّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد أبي بكر، ولا عهد عمر، ولا عهد عثمان، وإنَّما هو شيء أُحدث بعدما وقعت الفتنة." وبدأ هؤلاء القصاص، وهم غالبا من الجهلة، باختراع القصص الجذابة والكذب متعمدين على النبي صلى الله عليه وسلم برغم الوعيد الشديد والتحذير الواضح من خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ومن حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين أو الكاذبين" لأن الكذب على النبي هو كذب في الدين والتشريع، واشتهر هؤلاء القصاصون في معرض تبريرهم بقولهم " كذبنا له لا عليه"!! وهذه حجة سخيفة لأن الإسلام والدين والسنة النبوية كاملة لا نقص فيها كي تحتاج لأكاذيب القصاص وافتراءاتهم لتكتمل بها. وقد صنف عدد من أهل العلم من القدماء والمعاصرين كتباً في نقد هذه الظاهرة مثل الإمام السيوطي الذي ألف كتاب "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" والإمام ابن الجوزى صاحب "القصاص والمذكرين" و الحافظ العراقي في كتابه "الباعث على الخلاص من حوادث القصاص" وشيخ الإسلام ابن تيمية في بعض رسائله، واهتم بهذا الموضوع من المعاصرين د. محمد لطفي الصباغ في عدة كتب له منها "تاريخ القصاص وأثرهم في الحديث النبوي" . 2- القصاصون كانوا ستاراً دخل من خلاله كثير من الحاقدين على الإسلام لنشر سمومهم عبر ترويج قصص خرافية وأحاديث موضوعة تعمل على هدم الدين من خلال التهوين من شأن العبادات والطاعات ورفع شأن أعمال غير شرعية لتصبح لها الألوية في حياة المسلم، وأيضاً كثير من البدع والمحدثات ما راجت إلا من خلال القصاص. 3- انتشار القصص والاعتماد عليها علامة سلبية تعيق نهضة الأمة، كما في حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بني إسرائيل لما هلكوا قَصُّوا" وحسن إسناد الحديث العلامة الألباني وعلق عليه بقوله: (قال في "النهاية": أي: اتكلوا على القول وتركوا العمل، فكان ذلك سبب هلاكهم، أو بالعكس؛ لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص"، وأقول –أي الألباني-: ومن الممكن أن يقال: إن سبب هلاكهم اهتمام وعاظهم بالقصص والحكايات دون الفقه والعلم النافع الذي يُعرِّف الناسَ بدينهم فيحملهم ذلك على العمل الصالح، لما فعلوا ذلك هلكوا، وهذا شأن كثير من قصاص زماننا الذين جل كلامهم في وعظهم حول الإسرائيليات والرقائق والصوفيات" السلسلة الصحيحة": رقم 1681. 4- القصة لها وقع في القلب وتأثير في السامع ولذلك أرشد الله عز وجل إلى استخدام القصة بشرط أن تكون صحيحة من ناحية المعنى والوقوع، كما في قوله تعالى "فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" وقوله تعالي "نحن نقص عليك أحسن القصص" ، ولكن جعل القصص سلما لرواية أكاذيب الإسرائيليات والخرافات وكرامات الأولياء التي تشبه حكايات ألف ليلة وليلة فهذا لايجوز. 5- مما ساهم في ترويج هذه القصص المكذوبة من جديد: بعض الدعاة الجدد على الفضائيات وخاصة عمرو خالد والحبيب علي الجفري، اللذان يكثران من إيراد القصص المكذوبة والأحاديث غير الصحيحة، وقد  قام  الدكتور خلدون مكي الحسني بنقد الأحاديث والحكايات التي قام الجفرى بعزوها فقط - دون ما لم يعزوه من القصص الموضوعة - فخرج بتأليف كتاب "إلى أين أيها الحبيب الجفري؟ وقفات هامة وتنبيهات مهمة على كتاب معالم السلوك للجفري" وقدم لكتاب الحسني كلٌّ من الدكتور مصطفي الخن والشيخ كريم راجح، وقد توصل المكي إلي وقوع الجفري في تجاوزات خطيرة في تصحيح الأحاديث الضعيفة، وتضعيف الأحاديث الصحيحة، ولذلك يجب على دعاة الفضائيات الحذر والتثبت في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن حديثهم يدخل بيوت ملايين المسلمين. 6- غالب من يروج لمثل هذه الرسائل والإيميلات هم من الشباب المتعلم والمثقف، لكن هذا يكشف لنا عن هزال هذا التعلم والتثقف ويظهر وجها آخر لأزمة التعليم اليوم، حيث أصبحت المؤسسات التعليمية لا تخرج متعلمين بقدر تخريجها لمتلقين وحملة شهادات لا يملكون آلة العلم والفكر، فكيف يقوم مهندس أو طبيب أو محاسب أو معلمة مثلاً بترويج حديث أو قصة دون تثبت رغم أن ذلك متاح بكل يسر على شبكة الإنترنت التي يرسل من خلالها الرسالة!! ولماذا لا يتمكن مثل هؤلاء المتعلمين من التفريق بين المعلومة الصحيحة والمعلومة المختلطة في الدين، فتجد كثيرا من هؤلاء المتعلمين أيضاً ضحايا للمشعوذين والدجالين!! ومن الأمثلة التي توضح عجز مخرجات التعليم لكثير من مثقفي المسلمين عن فهم الدين، قصة رسالة خادم الحرم النبي - والتي تجدها على زجاج سيارتك بعد صلاة الجمعة في عمان الغربية أحيانا !! - وأن من يوزع هذه الرسالة تصيبه مصائب عدة، كنت أقول لكثير ممن يسأل عن ذلك هل سبق لك أن وزعت مصحفا؟ فيكون الجواب بالنفي، فأقول له وهل هذه الورقة أفضل من المصحف، الله عز وجل لم يلزمنا بتوزيع المصحف ولا يعاقبنا على ذلك فلماذا هذه الورقة نعاقب عليها!! وذلك بغض النظر عن محتويات الرسالة وصواب أو خطأ ما فيها. وفي الختام أحث كل المستخدمين لشبكة الإنترنت على الحرص على كسب الحسنات من خلال إرسال الرسائل الموثوقة والصحيحة التي تحث على التعلم والطاعة وحسن الخلق والحرص على الإيجابية والتعاون مع الجميع في الخير والمباح.