عبقرية علماء الحديث 3

الرابط المختصر
Image
عبقرية علماء الحديث 3

إنّ جوانب عبقرية علماء الحديث لم تقف عند وضع القواعد والضوابط التي تضمن سلامة الحديث، وصحة الرواية سنداً ومتناً فحسب؛ بل تعدّت إلى الإبداع والإبتكار في طُرُق تأليف الكُتب التي جَمعت الأحاديث، وطريقة كتابتها أيضاً؛ وهو ما نختم به سلسلة مقالاتنا حول عبقرية علماء الحديث. فحين توسعت رقعةُ بلاد الإسلام، وكثُر الداخلون فيه وانتشر الصحابةُ في البلاد والأمصار، دعت الحاجةُ لوضع كُتبٍ تجمعُ أحاديثَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم؛ وعدم الاكتفاء بالكتابات الفردية المتناثرة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما فعل أميرا المؤمنين أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما ـ من قبلُ ـ حين جَمَعَ الصديقُ المصحفَ ونَسَخَهُ عثمانُ ذو النورين نسخ عِدة؛ ووزعها على بلاد الإسلام، ويُعدّ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أوّل من أمر بتدوين السّنّة النبويّة. وحين فُتحَ البابُ لتدوين السّنّة؛ تنوعت طُرق التدوين للأحاديث النبويّة بحسب المصلحة والحاجة، فظهرت عند ذلك جوانب من عبقرية علماء الحديث، في تسهيل الوصول للحديث المراد، رغم عدم وجود نُسخ متماثلة من الكتب بين أيدي الناس بسبب الكتابة اليدوية للكتب - والتي حلّت باكتشاف الطباعة-  التي جعلت من غير المجدي وضع فهارس تفصيلية للكتب تكشف ما فيها من معلومات وبيانات كما هو الوضع اليوم. لقد تغلب علماء الحديث على هذه المُعضلة بأن صنّفوا الكتب بطرق متنوعة تجعل من السهل الوصول للحديث من خلال مداخل متعددة للبحث: 1- فإن كنت تعرف موضوع الحديث فيُمكنك البحث عنه من خلال الكتب المصنفة على المواضيع: وهي كتب جمعت الأحاديث النبويّة مرتبة بحسب الموضوعات، وهي ثلاثة أنواع: كُتب اشتملت على أغلب أبواب الدِّين مثل العقائد، والأحكام، والرقاق، وآداب الأكل والشرب والسفر والمقام، وما يتعلق بالتفسير والتاريخ والسير والفن، والمناقب، والمثالب ونحو ذلك، وسُمّيت بالجوامع، مثل صحيحي البخاري ومسلم وكُتب السُّنن، أو كُتب اختصت بموضوع محدد مثل كتاب "الشمائل المحمدية". 2- أو إذا كنت تعرف رواي الحديث؛ فهناك كتب مصنفة بحسب الراوي الأعلى للحديث: وهو الرواي الذي اسمه في السند قبل النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهو غالباً من الصحابة، وقد يكون من التابعين إذا كان الحديث مرسلاً، وتجدها في خمسة أنواع من كتب الحديث وهي: كُتب المسانيد التي جمعت أحاديث كلّ صحابي على حِدة وأشهرُها "مسند الإمام أحمد"، وكتب المعاجم وهي التي رتبت الأحاديث بحسب الصحابة أو الشيوخ أو البلدان، مثل "المعجم الكبير" للطبراني، أو كُتب الأطراف؛ وهي كتب رتبت فيها طرف وبداية الأحاديث لكتاب أو عدة كتب على أسماء الصحابة أو التابعين، ككتاب "تُحفة الأشراف بمعرفة الأطراف"، أو كتب تراجم الرواة من الصحابة والتابعين التي ذكرت أحاديث كلّ واحد منهم، مثل كتاب "الطبقات الكبرى" لابن سعد، أو كُتب الفهارس الحديثية التي عملت على أسماء الصحابة. 3- إذا كنت تعرف بداية الحديث، فيمكنك البحث عنه من خلال كتب الحديث المرتبة (ألفبائياً) على حروف المعجم، وهي ثلاثة أنواع: كتب في عامّة الأحاديث ككتاب "الجامع الصغير" للسيوطي، والذي قام الشيخ الألباني بتمييز أحاديثه الصحيحة عن الضعيفة، أو كُتب ركّزت على الأحاديث المشهورة بين الناس ككتاب "التذكرة في الأحاديث المشتهرة"، أو كُتب الفهارس الحديثية التي عملت على حروف المعجم بحسب أوائلها. 4- إذا لم تكن تعرف من الحديث إلا كلمة غريبة نادرة الاستعمال، فيمكنك البحث عن الحديث بواسطة كتب غريب الحديث التي جمعت الأحاديث التي فيها كلمة غير مشهورة، مثل كتاب النهاية غريب الحديث لابن الأثير. 5- كما يمكنك البحث عن الحديث من خلال اتصافه بصفة حديثية محددة، وقد أفرد علماءُ الحديث كُتباً خاصة للأحاديث القدسية أو المتواترة أو الأحاديث المُسلسلة؛ وهو ما تتابع رجال إسناده على صفة واحدة كالحديث المُسلسل بالتشبيك باليد مثلاً، وهو أنّ كلّ الرواة شبّكوا أيديهم في روايته، أو الأحاديث المُبهمَة؛ وهي التي فيها شخص لم يُذكر اسمه، أو كتب عُنيت بجمع الأحاديث التي فيها أوائل الأشياء، وهي التي تبدء بـ " أوّل من .." وغيرها كثير. ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ من تعدد طُرق تدوين الحديث ليسهل على الناس الرجوع للأحاديث قبل توفر الفهارس التفصيلية أو أقراص الكمبيوتر؛ بل تعداه لتأليف كتب تعتبر بمثابة تعديل لكتاب معين؛ ليصبح متوافق مع طريقة بحث ثانية، مثل كتاب "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" حيث أعاد مؤلفه ترتيب كتاب ابن حبان على الموضوعات، فجعله متوافقاً مع آلية البحث بالموضوع بلُغة عصرنا !! وبعضُ علماء الحديث عَمل على دمج عِدة كتب في كتاب واحد مثل كتاب "الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم"، وبعضهم عَمل على إضافة الأحاديث الزائدة في بعض الكتب على كتب أخرى وهو ما عُرفَ بكُتب الزوائد، وكلّ ذلك من أجل الوصول لكتاب موسوعي يَشمل جميع الأحاديث.    وأخر ما نُشير إليه من عبقرية علماء الحديث هو طريقتهم الخاصة والمُبتَكرة في التّرميز والاختصار في كتابة الأسانيد، فلكثرة تكرار كلمات مثل: حدَّثنا وأخبرنا في الأسانيد؛ فإنهم للسرعة والاختصار، وتوفيراً للورق عَمَدوا إلى الاختصارات فكتبوا: حدثنا = ثنا، وأخبرنا = نا، ولكنهم يلفظونها كاملة. كما أنهم قد يذكرون للحديث الواحد أكثر من سند؛ وحتى لا تختلط الأمور؛ فإنهم يكتبون حرف (ح) عند الانتقال من سند إلى أخر؛ لتنبيه القارئ على هذا الانتقال، كما أنهم لجأوا إلى جعل رموز معينة إذا أرادو العَزو لكتاب ما؛ فمثلاً وضعوا (خ) للإشارة لصحيح البخاري و(م) لصحيح مسلم و(ق) لابن ماجه القزويني؛ وكانوا يَنصون على معنى رموزهم في بداية الكتاب، طلباً للاختصار والتسهيل على الناسخ والقارئ. كما أنّ من إشاراتهم وضع دائرة فيها نقطة، للدِلالة على أنّ هذا الكتاب قد قُوبل على نسخة مكتوبة، وليس سماعاً من الشيخ أو المؤلِّف. هذه بعض جوانب العبقرية عند علماء الحديث، والتي تولّدت من حث الوحي الرّباني على العلم والإبداع ؛ فشهدت جميع العلوم الإسلامية الكثير من العبقرية والإبداع، والتي بها أقام المسلمون أعظمَ حضارة في التاريخ، وأشادوا للعالم صروح العلم والمعرفة؛ دون استعباد أو ظلم للأخرين.