في الأسبوع الماضي استعرضنا التسلسل التاريخي لنشأة الجماعات الإسلامية المسلحة في مصر، وذكرنا أن بعض أفرادها هرب أو خرج من مصر، واليوم نواصل الحديث عن تأثيرهم. من أرخ لجماعة المسلمون (التكفير والهجرة) يذكرون أن مصطفي شكري بعد خروجه من السجن أرسل عدداً من أتباعه للبلاد العربية لنشر الدعوة والحصول على دعم وتمويل للجماعة وذلك سنة 1974، ومن الدول التي ذهب لها هؤلاء المبعوثين السعودية. وعن دورهم أو بعضه في السعودية يحدثنا ناصر الحزيمي أحد الجهيمانيين القدماء، وذلك في كتابه الجديد "أيام مع جهيمان: كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة"، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر سنة 2011، وهي أول شهادة مكتوبة لأحد أفرادها السابقين. ولابد من تقديم موجز عن شهادته لنشأة جماعة جهيمان حتى تكتمل الصورة ونفهم تأثير مندوبي مصطفي شكري، يقول الحزيمي أنه سأل جهيمان عن تاريخ نشأة الجماعة فأخبره أنها بعد حادثة تكسير الصور (المانيكات، التي توضع عليها الملابس) في المدينة المنورة سنة 1965، وهي الحادثة التي على إثرها تم تسفير الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ود.عمر الأشقر من السعودية رغم أنه لا علاقة لهم بالتكسير، ورغم أن الشيخين عبد الخالق والأشقر أشارا للحادثة في سيرتهما الذاتية، وفي حديث خاص مع د.الأشقر وضح الصورة كما يلى: حين دخلت هذه المجسمات على أسواق المدينة المنورة، استنكرها العلماء والدعاة لأنها من التماثيل، ولكن تبنى بعض الشباب القيام بتكسيرها وتغيرها، وهو ما رفضناه أنا وعبدالرحمن، وكان رأينا أن نبين حكمها في دروس عامة في المسجد النبوي، ومن ثم نخرج للسوق وننصح أصحابها بخصوص ذلك كما سبق أن فعل الشيخ ابن باز، ويقول لي د.الأشقر وفي النهاية أظهروا لنا الموافقة والقبول بالإكتفاء بالنصيحة، وفعلاً بعد صلاة الفجر قامنا بإلقاء كلمات حول ذلك، وخرجنا للسوق لننصح أصحاب المحلات، فوجدنا أن تلك المجموعة بدأت بالهجوم على المحلات وتكسير المجسمات والسوق بخلاف الإتفاق، وطبعاً كنا نحن في الواجهة فتعرضنا للسجن والطرد"، وكان على رأس تلك المجموعة المخالفة محمد الشدي.
بعد هذه الحادثة بمدة تجمع عدد من الشباب منهم جهيمان العتيبي والذي طلب من الشيخ ابن باز أن يترأس مجموعتهم الدعوية -على غرار جماعة التبليغ- للدعوة للتوحيد واتباع الكتاب والسنة، فوافق الشيخ على ذلك واعطاهم بيت (سمي بيت الإخوان) يجتمعون فيه وعين معهم الشيخ أبو بكر الجزائري مشرفاً. لكن مخالفة العلماء والدعاة والخروج عن رأيهم واللجؤ للشدة تكرر من جهيمان – الذي لم يتعد تعليمه الرابع الابتدائى، ولم يدرس على العلماء بطريقة غير نظامية – كما يخبرنا الحزيمي حيث ظهر ميل جهيمان وأصحابه نحو التشدد والشذوذ في المسائل الفقهية، وتكررت مصادماتهم للعلماء والعامة، ولما كثرت الشكايات منهم عقد الشيخ الجزائري بحضور بعض العلماء عام 1978اجتماع مع بعض الشباب ونهاهم عن أفعالهم وتبري من أفكارهم وأن من لا يلتزم بذلك فليخرج من بيت الإخوان، فانحاز أغلب الشباب لجهيمان وحصل بذلك الفراق بين جهيمان والشيخ ابن باز والذي كانت رئاسته شرفية، وانفرد جهيمان بقيادة الجماعة، ومن ثم يسرد الحزيمي عدد من المواقف التي عاتبه فيها جهيمان على بقائه يدرس على الشيخ ابن باز. أما عن دور اتباع مصطفى شكري فيقول الحزيمي: " أن الإخوان قد التقوا ببعض الأفراد من جماعة التكفير والهجرة المصرية، فطرحوا بين الجماعة قضايا الحاكمية والموقف من الحكام وفعلوها، وكان على رأسهم شخص عرف بيننا باسم أبوعبدالله المصري وأسامة القوصي، قدما للعمرة ثم تخلفا عن السفر وجلسا ثم استمالا معهما عدداً محدوداً من طلاب الجامعة الإسلامية من مصر وبعض الطلبة اليمنيين"، ويقول أيضاً: " كان بيت الإخوان يستقبل مجموعة من المرتادين للمدينة والمعتمرين المخالفين لنظام الإقامة، وكانوا بمجملهم من مصر وأغلبهم من الجماعة الإسلامية من طلاب الجامعات المصرية، واتضح في ما بعد أن بعضهم من جماعة الجهاد وبعضهم من جماعة التكفير والهجرة أو لهم علاقة بهم، وكان أكثر ما يثار وقتها بينهم هو موقف السلفيين من سيد قطب وموقفهم من تكفير الحاكم .. وكانت تحدث سجالات طويلة عريضة بينهم وبين السلفيين من أصحاب البيت". ورواية الحزيمي تتفق مع ما يذكره أسامة القوصي – الذي ورد اسمه في شهادة الحزيمي- عن نفسه، حيث يقول: " كانت أمي تقول لي: أنت تكفر الحاكم لأنه يحكم بغير ما أنزل الله، لماذا تكفرني أنا ؟ ما ذنبي ؟ " وفي عام 1977 ذهب في رحلة نظمتها الجامعة إلى العمرة، فكان لا يصلي خلف أئمة الحرم لأنه كان يكفرهم، فيصلي وحده !! وهي تتوافق مع قول الشيخ مقبل الوادعي في كتابه "المخرج من الفتنة"، أن بعض من يحملون أفكار "التكفير والهجرة" دخلوا الجماعة عام 1978، ومقبل الوادعي اليمني يعد من شيوخ الجماعة، ولكنه رُحل قبل حادثة الحرم، وانكر عليهم ادعاء المهدية واحتلال الحرم. وهذا أيضاً ما يقرره الشيخ عبدالرحمن عبد الخالق في تفسيره انحراف جهيمان وجماعته من التشدد الفقهي والتغيير باليد إلى التكفير والقتل. وهذه الرواية يؤكدها اعدام عدد من المصريين مع جهيمان، ومن المصريين الذين يقال بأنهم عاصروا حادثة الحرم ثم عادوا لمصر محمد شوقي الإسلامبولي الشقيق الأكبر لخالد إسلامبولى الذي اغتال السادات !! هذه العلاقة بجهيمان وجماعته مع اتباع مصطفي شكري جاءت بعد انقطاع صلة جهيمان بالعلماء السلفيين مثل الشيخ الألباني الذي سكن المدينة بين عامي 1960- 1964 ودرس في الجامعة الإسلامية، وانقطاع صلته بالشيخ ابن باز الذي رحل للرياض وانقطاع صلته بالشيخ أبو بكر الجزائري. شهادة الحازمي تكشف أيضاً عن دور مهم للألباني في محاولة اصلاح جهيمان وجماعته وهو دور غير معروف من قبل، يقول الحزيمي: " لما جاء بعض المصريين إلى المدينة، وبعضهم ينتمى إلى التكفير والهجرة، واستطاع بعضهم من خلال نقاشه مع فيصل محمد – من قدماء الجماعة - أن يتبنى هذا الفكر" ويعتنقه " في سنة 1977 حتى أنه ترك سكنى المدينة ونصب لعائلته خيمة في منطقة برية، وكان معه عصام شيخ وانضم إليهم أحمد الزامل" .. "كانت هذه الأفكار التي بات يحملها فيصل تؤرق مضجع جهيمان، خصوصاً وأنها تتلاقى مع أفكار فرقة الخوارج، الاسم الذي يرعب جهيمان جداً، وصادف في أحد الأيام أن زار المدينة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني فشرح له جهيمان هذه المشكلة مع فيصل، فطلب اللقاء به وفعلاً تم لقاء في بيت فيصل محمد بترتيب من جهيمان، وحضره يوسف أكبر وجهيمان وفيصل وعصام شيخ والشيخ الألباني، وتم الحوار حول مسائل الحاكمية والفكر التكفيري وعلاقة هذه الأطروحات بفكر الخوارج، وأن الكفر أنواع، واستشهد له الشيخ الألباني بكلام السلف...خرج فيصل بعد هذا اللقاء بفكر جديد حول قضايا التكفير والإيمان أقرب إلى الاعتدال في تلك الفترة ... وسَجل هذه الجلسة على شريط كاسيت ... وعلمت أن جهيمان أتلفه مباشرة، وكانت وجهة نظر جهيمان أن مشايخ السلطة ينقبون عن مثالب الإخوان ويبحثون عنها، فهذا الشريط دليل قوي على أن الإخوان يحملون فكر الخوارج". ولكن يبدو أن تواجد المصريين الدائم، وتكاثرهم واستخدام البعض لحيلة الرؤى والمنامات غلبت توعية الألباني عند جهيمان، ولكن هذه التوجيهات كان لها أثر عند بعض الأفراد الذين لم يقبلوا حكاية المهدى وانشقوا عن الجماعة وجهيمان قبل احتلال الحرم بستة شهور كما يقول الحزيمي. ولذلك حين تبلورت نظرية جهيمان الجديدة في كتابه "رفع الالتباس" هاجم السلفيين بقوله: " أما حال من التبس عليهم الأمر عمداً أو جهلاً، فلنسرد لك أعمالهم وأقوالهم ليتجلى لك حالهم: تقول طائفة منهم إن قيام الدين أساسه محاربة القبوريين وإظهار العدواة لهم... وطائفة أخرى تقول بقول الطائفة الأولى وتزيد عليها بالحمل على التعصب المذهبي الأعمى والدعوة إلى الذب عن الحديث وتصفيته مما أدخل فيه" ويواصل جهيمان نقده لهما بقوله: " أما الطائفة الأولى والثانية ومن شاكلهم، فيظهر لنا من حالهم أن ما قاموا به حق لا ينكر؛ ولكن لما كان هذا القيام منهم في مواجهة من لا سلطة في يده، وأنهم سكتوا عن أصحاب السلطات فيما يقومون به به من هدم لدين الله كان طريقهم الذي سلكوه هو الذي ضل به من كان قبلهم"، ويوضح الحزيمي الطائفتين بقوله: " يقصد جهيمان هنا في الطائفة الأولى جماعة أنصار السنة –بمصر- ويقصد في الثانية الجماعة السلفية أتباع الألباني في الشام والكويت". هذه هي الحقيقة لمن يبحث عنها، وهذا هو الفرق بين السلفيين (ابن باز، الألباني، أبو بكر الجزائري، عبدالرحمن عبد الخالق، عمر الأشقر) والتكفيريين(شكرى مصطفي)، وهذا مصير أصحاب القوة وقلة العلم والفهم حين يبتعدوا عن العلماء السلفيين ويختلطوا بالتكفيريين، فجهيمان وعبد الرحمن وعمر هم من جيل واحد وتزاملوا، ولكن أنظر لما آلت له أحوالهم، جهيمان بسبب قلة العلم والصدام مع العلماء احتل الحرم المكي وعطل الصلاة فيه أكثر من 80 صلاة وقتل فيه العشرات!! وبين عبدالرحمن وعمر الذين –بتوفيق الله- حرصوا على العلم وصحبة العلماء فأصبحوا من أبرز قادة وفقهاء ومنظري العمل الإسلامي المعاصر.