مما هو محل إجماع لدى كل المنصفين أن دولة الإسلام التي أقامها الصحابة وسار على نهجهم كانت النموذج المثالي الذي لم يتكرر بعدها، ولم يقتصر خير وفضل هذا النموذج على الصحابة وحدهم بل نعم بخيره سائر الشعوب والأمم رغم اختلاف أديانها ولغاتها وألوانها. ولذلك منذ أن انحرف مسار دولة/ دول المسلمين عن نموذج دولة الصحابة فقد فقدت البشرية النموذج الذي تقتدى به، ولم تتوقف أبداً المحاولات للوصول للنموذج الدولة السليم والعادل. والسبب في تفرد الصحابة الكرام بتقديم النموذج المثالى للحكومة و الدولة، هو تطبيقهم لمبادىء القرآن والكريم والسنة النبوية في الحكم والدولة والمتمثلة في: ضرورة وجود سلطة. المسلمون شركاء ومتساوون في اختيار السلطة. القوة والأمانة معيار تولى المناصب. ليس لأحد - مهما كان - حق خاص بتولى السلطة. الشورى هي السبيل لإتخاذ القرار. الجميع خاضعون لحكم الله عز وجل وليس لرغبة فرد أو أهواء نخبة. الحاكم هو وكيل عن الأمة، وهو خادم للأمة وليست الأمة خادمة له. الغاية من السلطة والدولة هو إقامة العدل وعمارة الأرض. وكانت هذه المبادىء هي الثقافة التي تسود المجتمع المسلم، ولذا حين خاطب ربعي بن عامر كسرى فارس فإنه لخص له هذه المبادىء بقوله: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". لقد كان ربعي والصحابة يدركون حقيقة الإستكبار والطغيان الذي يسود بلاد الفرس والروم، الذي يزعم أنه يحكم الناس باسم الإله دون حق أو نظام عادل معروف للناس، والذي يزعم فيه القادة أنهم يتلقون الأوامر من الإله مباشرة، وهذا كله ترسيخ للجور والظلم باسم الدين من خلال تواطؤ الأحبار والرهبان والسدنة مع السلطة، وهو كان منتفياً في الحالة الإسلامية ففي الخطبة الأولى للصديق رضي الله عنه نجد يعلن هذه الحقائق: " أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". لذا كانت غاية الفتوحات الإسلامية هي كسر نظام ( الثيوقراطية ) التي تقوم على التحالف بين الحاكم والدين والإقطاع، من خلال الدخول في الإسلام والإلتزام بقيمه الراقية في الحكم، أو من خلال السماح بنشر الدعوة الإسلامية بين الشعوب مقابل دفع الجزية، أو القتال والحرب. ولا تزال هذه الإستراتيجية هي المطبقة لليوم لكن مع تغيير في الأدوار، فبعد أن كان المسلمون هم رسل التحرير والعدل والسلام من خلال ما تعريف الشعوب على الوحي الإلهي الصحيح، وحين دخلت هذه الشعوب في الإسلام دخلت على قدم المساواة مع من سبقهم في الإسلام، فلم يعرف الإسلام نظام درجات الجنسية !! ولا الطبقات !! بل تمكنت سائر الشعوب من أن تساهم بفعالية في خدمة نفسها والإسلام في كافة الجوانب العلمية والسياسية والإقتصادية، لقد تقبلت الشعوب الإسلام بحب وصدق حتى أنها لم تتخل عنه حين ضعفت قوته وزالت مكانته، وأصبحت الدنيا لا تنال إلا بالبعد عنه!! ولكن اليوم أصبح الغرب وأمريكا تحديداً هم دعاة التحرر والعدالة من خلال التبشير بالديمقراطية، فإن قبلوها وإلا كان الحصار والحرب الخشنة والناعمة، الفارق بين حال الصحابة والمسلمين من بعدهم وبين حال الغرب اليوم أن الغرب وأمريكا لا ينظرون للآخرين نظرة المساواة التي يتشدقون بها كما في نظام الفيتو في مجلس الأمن، وأن الغرب وأمريكا يمكنهما تجاهل المطالبة بالديمقراطية إذا كانت لا تخدم مصالحها المالية أو السياسية، أو بتعبير د.حامد عبد الماجد: " قواعد الحق والعدل والإنصاف واليمقراطية تطبق فقط داخل المجتمع الغربي والأمريكي وعلى الإنسان الأبيض تحديداً، أما عدا ذلك من الأغيار والبرابرة – كما سماهم الرومان قديماً- فتتحكم موازين القوى وقواعد المصلحة بين الأطراف المختلفة". وهو ما نراه في تحالفات الغرب مع بعض الديكتاتوريات والإصرار المستميت على رعاية الإجرام الإسرائيلي. ولكن حين كان يسود العالم منهج الصحابة سجل التاريخ بأحرف من نور كلمة عمر بن عبد العزيز الملقب بخامس الخلفاء الراشدين: " إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً"، حين فضل بعض قادته أخذ الجزية على دخول الناس في الإسلام !! لكن حين تسلل بعض المغرضين بين جموع الداخلين في الإسلام بغرض حربه وافساده، ظهرت مقولة ابن سبأ اليهودي بوجود وصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه باستلام الحكم!! وقد كان من نتائج فكرة الوصية هذه إجهاض الكثير من محاولات السعي للإصلاح عبر تاريخ المسلمين بسبب أن قادتها ليسوا من أصحاب الوصية!! كما أنها رسخت فكرة السلبية والانتظار التي قتلت الطاقات ورسخت الطغيان. وتتطورت هذه المقالة المنحرفة عبر التاريخ لتشيد فكراً وحكماً ثيوقراطياً يدعى دوام الإتصال بالوحي الإلهي، كان من أخر خرافتها وأكاذيبها أن أحداث تونس ومصر هي ثورة يقودها الإمام المهدي الغائب في السرداب من ألف سنة!! وقابل هؤلاء قوم آخرون سلكوا مسلكاً متوسعاً بدل التضييق الذي حصر الوصية والوحي الإلهي في إثني عشرة رجل، فروج لفكرة منحرفة مقابلة وهي قدرة الأولياء على التلقي المباشر من الله عز وجل عبر ما سموه الكشف والعلم اللدني !! وتحدثنا كتب الكرامات والأولياء عن قصص خيالية - تصلح لأفلام السينما - عن مكاشفات وتجليات ربانية بتقديس الطغاة من المسلمين والمستعمرين من الكافرين بأنهم مظاهر إرادة الله عز وجل، فلا ينبغي مقاومتهم أوالسعي في دفعهم. في تجسيد جديد للثيوقراطية بالإنحراف عن حقيقة الدين والتحالف مع السلطة لإقتسام المكاسب من خلف ظهر الشعوب المقهورة، ولا مخرج من هذا سوى بالتمسك بمنهج الصحابة الكرام بإنقطاع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا صحة لهذا الوهم الذي يكذب صريح القرآن بتمام الدين والإسلام!! وأن السبيل هو في الإجتهاد الصادق بالوسائل الصحيحة للوصول للحلول لما يعترض المسلمون من تحديات، وهذا المنهج لما طبقه الصحابة قادوا الدنيا بأسرها، وهو الطريق الوحيد لخلاصها الأكيد، وللمسلمين اليوم الخيار بين سلوكه الآن أو بعد حين، والفارق هو إلى كم ترضون بالهون ؟؟
خطر الإنحراف عن منهج الصحابة العودة للثيوقراطية
2014/06/01
الرابط المختصر
Image