يصف كثير من أعضاء النخبة الثقافية عصرَنا بأنه عصر الرواية لا عصر الشعر، والرواية جنس أدبي غربي، وهو نثر خيالي يعتمد على السرد والحوار، له مكونات متعددة أهمها الأحداث والشخصيات والزمان والمكان والرؤية الروائية، وتتميز عن الأسطورة بكون مؤلفها معروفا، وقد أصبحت الرواية ذات رواج كبير، والمميز منها يجد طريقة لعالم السينما والتلفزيون، ومن هنا ينبع تأثيرها الواسع في المجتمعات. وقد عَرفت الدعوة الإسلامية المعاصرة عالم الرواية مبكراً، فأول رواية عربية "مناظر ريفية" صدرت في عشرينيات القرن الماضي، ولم تتأخر الرواية الإسلامية فصدرت بعد سنوات معدودة روايات محمد فريد أبو حديد وعلي أحمد باكثير، وسرعان ما احتلت مكاناً مرموقاً بل منافساً، حيث حصل أبو حديد على جائزة الدولة التقديرية سنة 1963، ويذكر هنا أن علي باكثير تقاسم جائزة الدولة التقديرية الأولى مناصفةً مع نجيب محفوظ، لكن نجيب محفوظ (الذي اكتشف مواهبه وأظهره للناس سيد قطب) حظي بمن يسلط عليه الأضواء بينما باكثير – بسبب ميوله الإسلامية- عانى من التعتيم والإهمال! للرواية الإسلامية اليوم رواج وانتشار يتوسع في القراء والمواضيع والقضايا التي يعالجها، فضلاً عن الأسلوب وطريقة المعالجة. "الهروب إلى العاصفة" هي الرواية الأولى من ثلاثية "رحلة أبراهام" الحاخام الأرثوذكسي الروسي التابع لجماعة ناطوري كارتا، التي تمتد عبر "الهروب إلى العاصفة" و"بشارات هائمة" و"كهولة قبل البلوغ"، والتي تجاوزت صفحاتها 2000 صفحة. "رحلة أبراهام" التي سجلها لنا د. إيهاب عويص، وهو طبيب الأسنان الفلسطيني المولود في دمشق سنة 1969، والذي تنقل للدراسة بين ألمانيا الغربية وهنغاريا وأخيراً روسيا، حيث تزوج هناك وأكمل دراسة الطب وعمل بها، ثم عاد لدمشق، وعقب الثورة السورية غادرها للسعودية. وقد مر بتجربة واقعية حول سلامة الدين ووجود الإله وصحة الإسلام، جعلته يطوف في عالم المعرفة حول الأديان والعقائد والمذاهب والفرق، حتى عاد للإسلام باقتناع ويقين عن دراسة وتمحيص، بل كانت هذه التجربة سبباً لإسلام زوجته أميرة نيكولايفنا، والتي كانت ألحت عليه بتسجيل هذه الرحلة. وفعلاً دوّن إيهاب تفاصيل بحثه في الأديان والفرق والمذاهب في الأديان السماوية (اليهودية، المسيحية، الإسلامية)، حتى أصبحت الرواية دائرة معارف في تفاصيل هذه العقائد وتشعبات فرقها ومذاهبها، وأيضاً تناول حقائق جماعة عبدة الشيطان وعقيدة البوذية. ولكن بأسلوب جذاب وشيّق، بعيداً عن الصيغة الأكاديمية الجافة، التي تستصعب على قطاعات واسعة من الناس. ولم يقتصر إيهاب على النواحي العقائدية بل تناول الجوانب السياسية لهذه الأديان في عالمنا المعاصر، فتناول علاقة الصهيونية بالمسيحية واليهودية، وخلافات فرق اليهود السياسية في فلسطين اليوم وانعكاساتها على قرارات الحكومة الإسرائيلية ومواقفها، فضلاً عن تناول جوانب من كشف عمليات الموساد. ولأن المادة والمعلومات التي يقدمها إيهاب في تجربته دسمة للغاية، رأى أن تقديمها في صورة رواية سيجعلها أسهل في القراءة والفهم والانتشار، ولكن مع الحفاظ على الدقة والموضوعية والأمانة العلمية في نقل الأقوال والمواقف الخاصة بكل دين أو فرقة أو طائفة. وهذه نقطة القوة والتميز الأولى في "رحلة أبراهام" التي جعلت منها أول رواية في مقارنة الأديان مع الالتزام بالواقعية والدقة في معلوماتها ومواقفها، فهي مستقاة من المصادر الأصلية والمعتمدة لكل دين أو فرقة، أو من خلال المواقع الإلكترونية الخاصة بكل جماعة بما يتعلق بمواقفهم السياسية والعملية. أما نقطة التميز الثانية فهي في الحبكة الروائية لبطل القصة "الحاخام الشاب أبراهام" الذي ينزعج من تناقضات فرقته اليهودية (ناطوري كارتا)، فيصطدم بفتاة من عبدة الشيطان لتفتح في قلبه نافذة الشك في صحة عبادة الله، لكنه بالدراسة يكتشف زيف وبطلان فكرة عبادة الشيطان. ثم يصادف في رحلته في البحث عن الحقيقة دعاة البوذية النشطاء في هذه المرحلة، ليتعرف عليها ويدرك مقدار الخلل والتناقض الكامن في تجمعاتها بحسب البلد الذي تتواجد فيه. ثم يدخل في حوار مع جاره اليهودي الملحد الماركسي حول حقيقة الدين ووجود الإله، وبعد قراءات مطولة في المادية والإلحاد، يوقن بعقلانية الإيمان وعلمية الخلق الإلهي للكائنات. فيعود للإيمان باليهودية ولكن مع البحث عن الحقيقة في فرق وطوائف اليهود الأخرى، ولذلك يقرر السفر لإسرائيل، وهناك يلتقي بشخصيات يهودية من طوائف متعددة ويدخل معهم في حوارات وسجالات، ولكن لا يصل معهم للحقيقة، حول سبب اختلافات الفرق اليهودية حول التوارة والتلمود، وقضايا العصر، فضلا عن تمكنهم من إثبات سلامة نص التوارة والتلمود المتداول أصلا. وقد تصدع رأسه من دراسة خلافات اليهود التي نتجت عنها ظهور الصهيونية، ثم من الخلافات حول التعامل مع الفلسطينيين والعرب، مرورا بتشابكات اليهود والغرب السياسية. وفي تلك الأثناء أتيح له الاحتكاك بفلسطيني عربي مسلم "أحمد الكاشف" ويسكن معه! وهنا يكتشف الحاخام حقيقة النظرة الإسلامية تجاه اليهود ويطّلع على جوانب من القضية الفلسطينية من الطرف الآخر، وفي هذا السياق يتعرف أبراهام على فتاة يهودية لها عشيق وهو ضابط كبير في الموساد، فيطاردهما فيفران للقاهرة بعد أن يصطلي أبراهام بمؤامرات ومكائد الموساد في القدس والقاهرة، ، وهنا تنتهي "الهروب إلى العاصفة"، لتبدأ "بشارات هائمة"، تتناول رحلة "أبراهام" في البحث عن الحقيقة في الديانة المسيحية. الرواية تشد القارئ من جهة المواضيع والمعلومات التي تمتلئ جنباتها بها على غرار روايات "دان براون"، ومن جهة سلاسة اللغة ووضوح التعبيرات برغم موضوعها العالي، ومن جهة الغموض والمفاجآت في تطورات الأحداث، وقد لقيت رواجا كبيرا في معرض الرياض الدولي للكتاب. يلخص المؤلف هدفه من هذه الروايات بأنها موجهة لثلاث فئات: للقراء المسلمين لمساعدتهم على تحقيق فهم أكثر واقعية لطبيعة الآخر، وأن يزيلوا الغموض عن حقيقة العلاقة بين اليهود والمسيحيين، وللقراء المسيحيين واليهود لمساعدتهم على فهم الإسلام من خلال كتبهم المقدسة بعد أن تشوهت رؤيتهم لنا، وللقراء العلمانيين ليصل بهم من خلال اكتشافات العلم الحديثة إلى تأكيد وجود الحياة الآخرة بالمنطق الدنيوي الذي يتبعونه. أظن أن كثيرا من شبابنا اليوم بحاجة لقراءة هذه السلسلة في خضم الأجواء المفتوحة على العقائد والأديان والأفكار، والتي تروج بينهم من خلال روايات ووسائل التواصل الاجتماعي، فجاءت هذه الروايات لتسد ثغرة مهمة في ثقافة الشباب العصري، وكم نحتاج من المؤلف أن لا يقف عند هذه الروايات، بل يواصل تقديم روايات جديدة تعالج الأفكار والعقائد الوافدة التي تغري الشباب لخوض مستنقع الأفكار المنحرفة والضالة.
رواية الهروب إلى العاصفة
2014/10/01
الرابط المختصر
Image