ضعف الإيمان وقلة التدين .. علتنا

الرابط المختصر
Image
ضعف الإيمان وقلة التدين .. علتنا

لأسف، ما يزال البعض منا يخدع نفسه بشأن السبب وراء سوء أوضاع وأحوال الأمة الإسلامية منذ عقود؛ فيبقى يتنقل بين أسباب ومبررات ثانوية لهذه الحالة المتردية، لأنه يُعرض عامدا عن السبب الأساس والواضح لما نحن فيه، والذي يدركه أعداء الأمة بوضوح، فيما يتعامى عنه بعض المحسوبين عليها، وللمفارقة يعدون أنفسهم نخبتها وطليعتها، لكنهم لم يضيفوا لها إلا الهم والهوان والمهانة.
الأمة الإسلامية، بتعدد شعوبها ومكوناتها ولغاتها وأقطارها، لا جامع لها ولا رابط إلا الإسلام، ولا قيمة لها عبر التاريخ إلا بالإسلام. ونقصد بالقيمة: القيمة الأخلاقية والحضارية. نعم، عرفت بعض الشعوب أوقات قوة وعظمة، لكنها كانت ممزوجة بالظلم والاستعباد والنهب والغصب للغالبية من أبنائها لصالح المتنفذين؛ كحال الفراعنة والقياصرة والكياسرة، ولم يسلم من شرورهم حتى أبناء دينهم إذا اختلفت جنسياتهم. فرأينا استعباد الرومان للمسيحيين العرب في الشام ومصر قبل الفتح الإسلامي وبعده في عصر الحروب الصليبية. فضلا عن هذا كله، كانت الجاهلية هي السائدة فيما بينهم؛ من عبادة الأصنام والأموات، واتباع السحرة والمشعوذين، والغش والخداع وظلم الضعفاء وإهانة المرأة والأطفال وسوء الأخلاق والطباع.
ثم أرسل الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم للعرب والبشرية، نبياً خاتماً انقطع به الوحي الرباني للبشرية، يكمل مسيرة الأنبياء صلوات الله عليهم من قبله. فأمر بتوحيد الله عز وجل، ودعا إلى مكارم الأخلاق، وعلّم الصحابة أحكام الشريعة، فعمّت بين العرب الهداية الربانية، ثم فاضت على الأمم الأخرى، فتشكلت العولمة الحقيقية. إذ ساد شرع الله عز وجل الأرض؛ ذلك الشرع الحكيم والعليم ببواطن وظواهر الناس والخلق أجمعين، والذي جاء بما يصلح أحوالهم ويحقق العدل والإنصاف فيما بينهم في سائر شؤونهم.
وبقيت هذه هي حال الأمة الإسلامية التي لم تكن أنانية في يوم من الأيام، إذ كانت تستقبل بالترحاب سائر الشعوب والأقوام، بل وتفسح لهم المجال ليتقدموا إلى الصفوف الأمامية فيها، طالما كانوا منقادين لشرع الله، مصداقاً لقوله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات، الآية 13)؛ فتسلم القيادة فيها العربي والعجمي والبربري والكردي والتركي وهكذا، من دون غضاضة أو حساسية.
ثم جاء زمان جرت فيه على المسلمين سُنّة الله عز وجل الكونية، والتي أصابت الأمم السابقة من قبلهم، وكان حذرنا منها ربنا في القرآن الكريم: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ" (الأعراف، الآية 169)؛ أي فخلف من بعد ذلك الجيل الصالح خلف آخر لا خير فيهم، وقد جعلوا من دراسة الكتب السماوية سبباً لتحصيل منافع الدنيا الشخصية، حلالاً كانت أم حراماً، بدلاً من كونها نبراساً لنشر الهداية والعلم للناس أجمع، ويمنون أنفسهم بالتوبة والاستغفار لاحقاً. وقال الله تعالى في آية أخرى: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" (مريم، الآية 59).
وضعف الإيمان وقلة التدين يكونان بسبب كيد الشيطان: "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" (ص، الآيتان 82 و83). وحين يشيعان في مجتمع أو جيل، تختل لديه بوصلة الفهم والإدراك، ويبدأ يبحث عن حلول خاطئة لمشاكله وتحدياته؛ فإما أن يركن للأعداء ويدخل في دوامة التبعية والانصهار، فيفقد مقدراته وثرواته وعوامل قوته، وإما أن يجرى خلف الخرافات والشعوذات، ويطرح العلم ويركب مركب الجهل.
وهذا ينتج حالة من الهوان والضعف تتزايد، وتصبح كالمرض الخبيث الذي لا يلقى علاجا صحيحا؛ فبدلا من حصر المرض، يبدأ بالتمدد والاستفحال، وهكذا الحال بشأن الإيمان والتدين. فضعف الإيمان وقلة التدين، يجلبان معهما كوارث فكرية ومنهجية أولاً، ثم تظهر أعراضهما السلوكية، ثم تستقر أوجاعهما المزمنة، وتصبح كلفة التخلص منهما عالية جداً أو مؤلمة جداً أو تصل لمرحلة القطع والبتر.
فضعف الإيمان ينتج انحرافاً فكرياً، هو عدم الأخذ بالأسباب. بينما الإيمان القوي يدعو إلى الأخذ بالأسباب: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد، الآية 7). فمن أسباب قوة المسلمين عبر الزمان، دافعية الإيمان فيهم لاتخاذ الأسباب مع الإيمان بالله والتوكل عليه، فحقق الله عز وجل لهم ما لم يتحقق لغيرهم من الأمم.
ومن أهم الأسباب التي يدعو الإسلام والإيمان المسلمين والمؤمنين إلى الأخذ بها، العلم والعدل، وهما مطلوبان للدين والدنيا اللذين لا يصلحان إلا بالعلم وترك الجهل، والعدل وترك الظلم. وانظر للقرآن الكريم كيف يحث عليهما؛ فهو يرتب الأولويات كما في قوله تعالى "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" (محمد، الآية 19). فالعلم بالتوحيد أولاً، ثم الاستغفار والعمل. كما أن الأمر بالقراءة كان هو فاتحة نزول الوحي، لتسعد البشرية في دينها ودنياها، لأن الجهل ظلمات ودركات تسجن أهلها في الشقاء.
أما العدل، فهو أساس الأخلاق مع الخالق ومع المخلوق. ولذلك، جعل الله عز وجل الشرك به هو الظلم: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان، الآية 13)، لأن الشرك يعطي حقوق الله عز وجل لغيره من المخلوقات، ويعطي المخلوقات حقوقا ليست لهم. وأحياناً، يكون الشرك وسيلة لظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل باسم النذور والهبات من قبل المزورين والمحرفين للإيمان والمتاجرين فيه. 
والإيمان يدعو للعدل مع المخلوقات من البشر وغيرهم. فالإيمان حين يدعو للأخذ بالأسباب، ومنها العدل مع المخلوقات من غير البشر، فلأنه يدرك ترابط هذا الكون وكونه مسخرا للناس. ومن ثم، دعا إلى عدم الإضرار بالطبيعة والحيوان حتى تستقيم الحياة، وعمل على اكتشاف قوانين الكون والاستفادة منها. ولذلك، تطورت الحضارة الإسلامية بشكل سريع لمّا تفاعلت التفاعل العادل والإيجابي مع الكون بخلاف المشركين. 
ومن الأخذ بسبب العدل، إعطاء الإسلام البشر كافة حقوقهم. ولذلك، فإنه في ظل الإسلام أخذ المظلومون حقوقهم من الرجال والنساء والأحرار والعبيد والأقوياء والضعفاء، وذلك برد المظالم من جهة، ووضع التشريعات العادلة والمنصفة لكل مناحي حياتهم من جهة أخرى. ومن هنا جاءت عدالة الإسلام في الشؤون الشخصية؛ في أحكام الزواج والطلاق والميراث وما يتعلق بها، وفي أحكام البيع والشراء وسائر التعاملات، وفي أحكام القصاص والجرائم. وكم شقيت البشرية بعامة والمسلمون بخاصة لما أقصيت أحكام الإسلام عن الحياة في كثير من البلاد. ولعل الجدل الدائر اليوم حول عقوبة الإعدام، هو مثال صارخ لضياع العدالة بسبب ضعف الإيمان. فبدلا من وقاية سائر المجتمع بعقاب المذنب بشكل صحيح، يتم تحريف القرآن الكريم بشكل يكاد يصل إلى إلغائه فعلياً، والبقاء في دوامة الفساد والعناية بمشاعر المجرمين والقتلة، برغم أن تاريخ البشرية يؤكد فشل كل المنظومات العقابية المخالفة للشريعة الإسلامية، هذا بشرط أن يتم تنفيذ الحدود الشرعية بطريقة شرعية صحيحة، وليس لأغراض سياسية كما فعل الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري.
كما أن ضعف الإيمان ينتج مفهوما مضللاً، هو اعتماد أسباب مغلوطة، بما يفاقم المشاكل ويعقدها ويفرز مشاكل جانبية متوالية. فتقديس بعض المخلوقات من الأحياء والأموات، وجعلهم سبباً للشفاء والصحة والنصر والغنى (على النحو الذي نشاهده اليوم من خلال ما تبثه بعض القنوات لما يجري حول الأضرحة والمزارات)، كم عطل المسلمين عن اتخاذ الأسباب السليمة في العلاج والإنتاج والعلم والمعرفة! ومن طالع رواية "قنديل أم هاشم"، رأى ثقافة الخرافة وكيف حاربت العلم ومنعت الناس من علاج عيون أبنائهم حتى أصيبوا بالعمى، ويدرك حجم خطر الخرافة والجهل والشرك على مقدرات أمتنا بسبب ضعف الإيمان.
أما قلة التدين، فالمقصود بها القلة العددية والنوعية. فلو أن كل من تجب عليه الزكاة، فرداً أو مؤسسة أو دولة، أخرج زكاته، هل يبقى محتاج بيننا؟ ولو منعت المسكرات والمخدرات كلها، لكونها محرمة؛ وأقيم الحد الشرعي على متعاطيها؛ فهل تبقى تفترس زهرات شبابنا وشاباتنا؟ كم من أطفالنا وأولادنا يجدون رعاية تربوية سليمة على الإيمان والأخلاق؟ 
وعلى صعيد المضمون، فقد قال الله عز وجل " إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" (العنكبوت، الآية 45)، لكن ما تزال هناك فجوة بين عدد المصلين وبين من تنهَهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (رواه البخاري). والأمثلة على هذا كثيرة، فقلة التدين هي مشكلتنا وليس كثرتها كما يظن البعض.
مما لا يفهمه بعض المتحذلقين، أن التدين بنفسه كان سبباً في كثير من الأوضاع الإيجابية على مختلف الأصعدة؛ الصحية والعلمية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. فالمحافظون على الصلاة تجد مستوى النظافة الشخصية عندهم مرتفعا جداً، والمجتمعات الإسلامية من أقل المجتمعات البشرية إصابة بالأمراض الجنسية أو حالات الانتحار، فضلاً عن التفكك الأسري خاصة على مستوى الوالدين المسنين، وذلك بسبب التدين. كما أنه بسبب أحكام الميراث والمهر والنذور والكفارات، تجد شرائح كثيرة من المجتمع فرصة للكفاية والاستقلال المالي، أو توفر حد الكفاية، مع عدم تواجد ظواهر المشردين كما في المجتمعات الغربية الأقوى اقتصاديا.
الخلاصة: أمتنا الإسلامية هي مثال العولمة الصحيحة والمنشودة؛ فهي مفتوحة الحدود لجميع الشعوب والأقوام، وعندها المنهاج الصحيح للحياة من لدن الخالق العليم، الذي يدعو للعلم والعدل. وقد أسعد البشرية دهراً طويلاً، وما يزال يحفظ للأمة كيانها ووجودها من الاندثار، ويشكل الفرصة الوحيدة لها لحياة المجد والتقدم.
وعليه، فعلينا بمزيد من العلم الشرعي والدنيوي، ومزيد من العدل مع الخالق والمخلوق، وهو أعلى مرتبة في الإيمان، والتي هي مرتبة الإحسان؛ الإحسان إلى الله بالطاعة، والإحسان لعباده بالخدمة وحسن الخلق، فيقوى إيماننا وتزيد طاعتنا، ونحصل بذلك على الرفعة في الدنيا والآخرة.