في عام 1302هـ/ 1886م أعلن أمين سر لجنة اللغات الشرقية عن مسابقة يرعاها ملك السويد والنرويج (أوسكار الثاني) لتأليف كتاب يستوفي أحوال العرب قبل الإسلام ويستوعب ما كانوا عليه في الجاهلية من العادات والأحكام في المأكل والمشرب والزواج وأخبار أعيادهم وصناعاتهم ومعاركهم وصفاتهم، والفرق بين البدو والحضر منهم، وكيف أمكنهم وبأي وسيلة أن يتملكوا العالم في ذلك الوقت القصير بعد البعثة النبوية ودخولهم في الإسلام، برغم قلة عددهم وعُددهم؟ وهذه المسابقة تؤشر بوضوح على العقلية التي كانت تحكم أوروبا، فهي عقلية تهتم بمعرفة دقائق أحوال العرب والمسلمين، وعقلية تدرك مدى خطورة العرب والمسلمين مستقبلاً على قوة وهيمنة أوروبا، وأن أوروبا إنما تقدمت حين حكمها العلماء أو العقلاء من الملوك وذلك تأثراً بدولة الإسلام في الأندلس التي ساعدت بقوة على انحسار الخرافة والكهنوت عن أوروبا، فجامعات الأندلس في طليطلة وقرطبة وغيرهما ضمت بين طلابها ملوك وباباوات أوروبا!! وتصدى للمسابقة عدد من العلماء والفضلاء، وكان منهم شاب عراقي هو أبو المعالي محمود شكري الألوسي - كان في الثلاثين من عمره – فشمر عن ساعد الجد وصنف كتابه "بلوغ الأرب" الذي جاء في 3 مجلدات استغرق فيه ثلاثة أعوام تقريباً، وبرغم تقدم العديد من الشخصيات من بلاد مختلفة للمسابقة إلا أن التفوق والفوز كان من نصيب الألوسي حين أعلنت النتائج في عام 1307هـ، وقد جمع الألوسي فيه ما تناثر في بطون المخطوطات والقصائد من تاريخ العرب وأحوالهم مما لم يكن قد طرق بالتأليف من قبل ولا بوب وجمع بشكل مستقل، وقد تفنن الألوسي فيه بجمع أخبار وعادات العرب قبل الإسلام مما أكد على شرف معدنهم وقوة أخلاقهم مما جعلهم مؤهلين لقيادة العالم تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث للعالمين كافة، وكشف أبو المعالي بهذا الكتاب عن شخصية ذات ذكاء وقّاد واطلاع واسع ونفس أبية ومتشوقة للمعالي حقاً، وفعلاً الألوسي (توفي 1924م) أصبح من كبار العلماء والمصلحين لا في بغداد فقط بل في العالم الإسلامي. وفي نهاية المجلد الثالث كتب أبو المعالي تحت عنوان "ما أوجب تقدم العرب": "من استقرأ أحوالهم – العرب- تبين أن مدار تقدمهم وارتقائهم على منصة السؤدد، وذروة العز، أمور"، وذكر ثلاثة أمور قدمها لهم الإسلام وزرعها فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أوجبت لهم القيادة والزعامة للدنيا، الأمر الأول: العلم، وبيّن علاقة الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بالعلم فقال: "فإن العلم على اختلاف فنونه وتشعب غصونه من أعظم أسباب سعادة الإنسان، وهو نور محض به يهتدي أولو البصائر والعرفان، ولا نعني به إلا العلم النافع الدافع لحاجات النوع الإنساني وضرورياته، فدخل فيه جميع العلوم العقلية والنقلية، الفرعية منها والأصلية، ... فبالعلم النافع تكون الثروة وبالعلم تتهذب الأخلاق وبالعلم يسود الذليل وبالعلم ينتصر على العدو... ومن باد من العرب وهلك إنما كان من الجهل بعد العلم والغيّ بعد الهدى، (ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد* إرم ذات العماد* التي لم يخلق مثلها في البلاد* وثمود الذين جابوا الصخر بالواد* وفرعون ذي الأوتاد* الذين طغوا في البلاد* فأكثروا فيها الفساد* فصبّ عليهم ربك سوط عذاب* إن ربك لبالمرصاد) [الفجر 6-14] ... لما خيم عليهم غمام الجهل، وعصفت عليهم عواصف الغواية واتباع الأهواء كما هو مفصل في كتب التفسير والحديث. هؤلاء أولاد إسماعيل عليه السلام، ولا سيما قريش منهم إنما كانوا من العز بمكان مكين ومن السؤدد بحصن حصين، بسبب ما كان لهم من العلم أوفر نصيب، فائزين منه بالقدح المعلى والرقيب فذلت لهم يومئذ القبائل ودانت لهم البلاد... إلى أن تناقص منهم العلم وتقلص عنهم ظل المعارف والفضائل، وذلك قبيل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة، وهو المعني بزمن الجاهلية على قول منصور، فحينئذ شاع فيهم الجهل واختلت منهم الأحوال، وفسد منهم أكثر الخلق المحمود، وارتفعت البركات، وفشا فيهم المنكر.. إلى أن أشرقت عليهم أنوار بدر الإسلام وبعث الله تعالى من أنفسهم رسولا... فجد حينئذ بدعائهم إلى ما فيه سعادتهم .. إلى أن جمعهم على كلمة الإيمان وعلّمهم من المعارف والكمالات ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى، ومرنهم على محاسن الأخلاق وحثهم على السعي والتكسب وأصلح لهم ما أفسدوه .. حتى نبعت من قلوبهم ينابيع الحكم الجمة والمعارف النورانية وفاضت على الصدور والألسنة وامتلأ منها الكتب والدفاتر وأصبحوا أعلم من في الأرض.. وبذلك تقدموا يومئذ ذلك التقدم الذي بهر العقول واستولوا على غالب أقطار المعمورة .. وأنقذوا الناس من لجج الفساد". وأما الأمر الثاني الذي أوجب تقدم العرب المسلمين فهو: اتفاق كلمتهم ووحدتهم، وشرح ذلك بقوله: "كان العرب أيام جاهليتهم لا تجمعهم كلمة، ولا ينظمهم سلك نظام، وعادى بعضهم بعضا... فلذلك فشا فيهم يومئذ الذل والصغار وعمّهم الهوان، إلى أن أخذت العناية الإلهية بأيديهم من ذلك العناء وجمع شملهم بكلمة الحق وأوجب عليهم الدين المبين الاعتصام بحبل الله، وأن لا يتفرقوا ... (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون* واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم ءايته لعلكم تهتدون) [آل عمران 102-103] فلما ألف الله كلمة العرب على الإسلام .. كان لهم من الملك الواسع ما هو معلوم .. فلذلك كان خطباؤهم وحكماؤهم ينادون عليهم بالألفة ويحذرونهم من التفرق واختلاف الكلمة، وينذرونهم بما يستتبع ذلك من العواقب الوخيمة والنتائج الفاسدة". وأما الأمر الثالث الذي به تقدم العرب المسلمون وحكموا العالم فهو: العدل. وبيّنه الألوسي فقال: "العدل إذا كان شاملاً فهو أحد قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به .. والعرب لما استناروا بنور الدين المبين وجمعت متبدد شملهم كلمة الحق ودان لهم من دان من الأمم، شملوا الناس بالعدل في أحكامهم إذ كان من أهم مقاصد الشريعة الغراء، وأعظم مطالبها وأجل قضاياها، وبذلك نطقت آيات التنزيل. منها: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعِمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً) [النساء 58]... ومن وقف على سير الخلفاء الراشدين وغيرهم من أمراء العدل من العرب، تبين له أن ما كان من استقامة ملكهم واتساعه إنما هو بالعدل الشامل، ووضع الأمور في مواضعها، والعدل باب واسع يجري في أمور كثيرة ومرجعه إلى عدل الإنسان في نفسه ثم عدله في غيره". أ.هـ فبهذه الأمور الثلاثة (العلم والوحدة والعدل) أشاد النبي صلى الله عليه وسلم للعرب أمة فاقت الأمم جميعها، وعلى هذه الأسس الحضارية والأخلاقية والإنسانية بنيت الحضارة الإسلامية، على خلاف الحضارات الأخرى التي قامت على القوة والبطش والظلم واللؤم والخداع، والتي ما نهضت إلا بعد أن استعبدت جموع الناس لمصلحة نخب مترفة وإلا بعد أن نهبت ثروات البلاد لمتع حفنة من السادة والحكام. بينما حضارة الإسلام قامت على الدين والأخلاق والعلم والرحمة والعدل والوحدة، فحتى حين زالت قوة دولة الإسلام بقي الإسلام في قلوب الشعوب والجماهير غير العربية لليوم برغم المحن والبلايا التي تصب عليهم بسبب إسلامهم، كما تنقل لنا وكالات الأنباء الآن من بورما وسيرلانكا والصين وما حولها، والله المستعان. وكلمة أخيرة .. العرب من غير الإسلام سيبقون في جاهلية وتفرق وظلم، وتحكيم الشريعة يعني: العلم والوحدة والعدل، فهل يستيقظ المخدوعون بعداء الشريعة!! وهذا هو طريق نهضة أمة الإسلام أيها المسلمين، فمزيداً من العلم والوحدة والعدل، على مستوى الحركات الإسلامية والشعوب والدول المسلمة.
بهذا صنع الإسلام من العرب أمة متفوقة
2014/08/01
الرابط المختصر
Image