مواهب "جحر الضب"!!

عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتّبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه"، رواه البخاري، وفي رواية "لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: فارس والروم؟  قال: فمن؟". كنت كلما قرأت هذا الحديث أتساءل عن كيفية تطبيقه في واقع المسلمين، وذلك لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هي من الوحي الإلهي الذي لا بد وأن يتحقق في دنيا الناس "وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى" (النجم: 3،4). والإيمان بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالمستقبل هو جزء من الإيمان بالغيب والذي هو أساس الإيمان، ولذلك أنا وكل مؤمن يجب أن نؤمن بوقوع خبر النبي صلى الله عليه وسلم من تقليد بعض المسلمين لغيرهم في قضايا تافهة ومخالفة للشرع حتى شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بدخول جحر الضب الخرب، والضب هو حيوان صحراوي صغير يشبه التمساح، يتميز بالسرعة والخداع، ولذلك يحفر لجحره مدخلا ضيقا، ويحفر أيضاً مخرجا مموها للطوارئ، فبعض المسلمين سوف يقوم بتقليد أهل فارس والروم وأمثالهم في أشياء تافهة حتى أنهم سوف يقلدونهم حتى في دخول جحر ضيق خرِب لضب!! أي سيصل التقليد لجزيئات تافهة لا قيمة له. كنت أتساءل متى وكيف سيحدث هذا؟ فكان الجواب: عن متى؟ حين وصلنا عصر البث الفضائي المفتوح فأصبح المسلمون وغيرهم متجاورين في قرية كونية بفضل الشاشة الفضية، وأصبح بإمكان الفلاح في الأغوار أن يتابع أي قناة أمريكية أو حتى يابانية من خلال جهاز استقبال متميز، وهكذا اختلطت شعوب العالم وتمازجت وهي لم تبرح منازلها وشوارعها، وساهمت الترجمة والدبلجة المضحكة للمسلسلات بنشر الوباء على أكبر نطاق. وبدأنا نشاهد فضائياتنا العربية تقلد فضائيات أبناء فارس والروم وغيرهم في بث كل ضار ومفيد ووضيع وشريف، وطبعاً الأفضلية والأولوية للبرامج الضارة والوضيعة لأنها هي ما يقبل عليه الجمهور الباحث عن المتعة واللذة ولذلك فهذه البرامج تدرّ المكاسب والأرباح من خلال وجبات الإعلانات الساخنة بالإغراء، ومسجات الشباب والفتيات الأغرار.   وهكذا أصبحت فضائياتنا تشابه الصين في تقليد المنتوجات، لكنها تقتصر على البرامج بعكس الصين التي قلدت كل شيء فأصبحت مرشحة لتكون أكبر قوة اقتصادية في العالم عام 2017، وبقيت الفضائيات الصينية لا يلتفت إليها أحد!! المهم أن فضائياتنا قلدت كل شيء في تلك الفضائيات فأصبحت مسلسلاتنا وبرامجنا الأصلية والمدبلجة تفيض بكل قبائحهم وعيوبهم، فمشاهد الإغراء والإباحية والعنف والقتل والخمر والمخدرات وعقوق الوالدين وظلم الأسرة هي مدار أفلامنا ومسلسلاتنا، أما برامج تلفزيون الواقع فلم تترك شاردة ولا واردة إلا وتمثلتها، حتى فاحت رائحتها في كل مكان وأصبحت مقاطعها تلوكها كل فئران الكمبيوترات! وهذا هو جواب سؤال: كيف سنقلدهم في دخول جحر الضب؟ فسلسلة برامج المواهب والمقلدة عن برامج أجنبية تطبيق عملي حي ومباشر لاستراتيجية دخول جحر الضب الخرب، فالتقليد للبرنامج الأجنبي يبدأ من اسم البرنامج ويقلد حتى الديكور وأداء لجنة التحكيم والمتسابقين وحتى الجمهور هو نسخة طبق الأصل عن البرنامج الغربي، فاللباس الفاضح والتعليقات البذيئة والمواهب الغريبة والقبيحة وانفعالات المتسابقين والجمهور المفتعلة كلها على منهج جحر الضب الخرب. المشكلة الأساسية في هذه البرامج أنها تعلي من شأن القضايا التافهة وغير المجدية، وقبل أن نفصل الحديث في هذه الزواية يجب أن ننتبه لقضية مهمة جداً وهي أن عدونا الإسرائيلي لم يتفوق علينا بهذه المواهب! بل تفوق علينا بجدية شبابه وفتياته الذين تحملوا المشاق والمصاعب وبدعم روسيا له بالرجال، والمال من الغرب. فمن يعرف منا اسم مطرب إسرائيلي مثلاً أو لاعب كرة أو سلة فضلاً عن ممثل منهم، وهي ما تروج له هذه البرامج وتحصر الموهبة فيها. ما هي القيمة المضافة للأمة حين يخرج فيها من يتفوق على راغب علامة أو أليسا مثلاً، ما هي الفائدة التي ستعود على مجتمعاتنا من رعاية من يجيد تقليد الآخرين ليضحك الناس عليهم، وطبعاً هناك (مواهب) تعرض هي في الحقيقة من عالم الوقاحة والبذاءة، فهل هذا ما تنتظره أمتنا من شبابها؟ أليس من العار أن يبلغ عدد المشاهدين لبعض هذه البرامج 100 مليون مشاهد، ألا يجب أن نتساءل عن قيمة هذا الوقت: 100 مليون ساعة تضيع على الأمة في مشاهد لقطات مضحكة أو مبكية أو انفعالات في غير فائدة، ماذا لو سخّرت لتعليم الأميين أو تنظيف الشوارع أو تشجير الطرقات، كم سيكون العائد على الأمة؟؟ هذا فقط في متابعة برنامج واحد في حلقة واحدة، وتخيل عدد برامج المواهب هذه وعدد متابعيها وعدد مرات إعادتها لتعرف أن الهدر في الوقت يصل إلى رقم فلكي حقيقي، وقد أصبح من البديهي اليوم قيمة الزمن في الإقتصاد والإستثمار. برامج المواهب الغربية تقوم على فكرة القوة واللذة دون أي ارتباط بخلق أو دين، ولذلك فهي تقدم مواهب أقرب للرذالة والبذاءة من أي شيء آخر، وللأسف تسير فضائياتنا على نفس المنوال، شبابنا يحتاج إلى أن يرتبط بالحق والإيمان والخلق والعلم والقوة، ولسنا بحاجة لمزيد من الإسفاف وتبذير الطاقات في ملذات فانية ترسخ التبعية والتخلف والاستهلاك في مجتمعاتنا. البرنامج الوحيد الذي شذ عن استراتيجية دخول جحر الضب هو برنامج (نجوم العلوم) الذي قدم للأمة من خلال رعاية شباب وفتيات جادين يعشقون المعرفة ويعملون بشغف ليقدموا إضافة للدنيا من خلال اختراعات نافعة ومفيدة ترفع مستوى العلم والمعرفة في أمتنا.